قلت: ثم إن الناس في تلك المرحلة في حالة فتنة تتصارعهم الأهواء، وكل فرقة تنسب للأخرى مايذمها وإذا نقل لنا خبر كهذا فإنه يجب علينا ألا نقبله إلا إذا نقل عن عدل ثقة ضابط .. وقد حاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجدوا علاقة بين البيعة ليزيد وبين وفاة الحسن بالسم. ثم إن الذي نُقِلَ لنا عن حادثة سم الحسن بن علي رضي الله عنه روايات متضاربة ضعيفة، بعضها يقول أن الذي دس السم له هي زوجته، وبعضها يقول أن أباها الأشعث بن قيس هو الذي أمرها بذلك، وبعضها يتهم معاوية رضي الله عنه بأن أوعز إلى بعض خدمه فسمه، وبعضها يتهم ابنه يزيد .. وهذا التضارب في حادثة كهذه، يضعف هذه النقول؛ لأنه يعزوها النقل الثابت بذلك، والرافضة خيبهم الله، لم يعجبهم من هؤلاء إلا الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه يلصقون به التهمة، مع أنه أبعد هؤلاء عنها ..
وقلت أيضاً: إن هذه الحادثة - قصة دس السم من قبل معاوية للحسن - تستسيغها العقول في حالة واحدة فقط؛ وهي كون الحسن بن علي رضي الله عنه رفض الصلح مع معاوية وأصر على القتال، ولكن الذي حدث أن الحسن رضي الله عنه صالح معاوية وسلم له بالخلافة طواعية وبايعه عليها، فعلى أي شيء يقدم معاوية رضي الله عنه على سم الحسن؟؟!!
وإن من الدلالة على ضعف تلك الاتهامات وعدم استنادها إلى معقول أو محسوس، ما ذكر حول علاقة جعدة بنت قيس بمعاوية ويزيد، حيث زعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن سمي حسناً فإني سأتزوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء، فقال: إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا.
ولعل الناقد لمتن هذه الرواية يتجلى له عدة أمور:-
هل معاوية رضي الله عنه أو ولده يزيد بهذه السذاجة ليأمرا امرأة الحسن بهذا الأمر الخطير، الذي فيه وضع حد لحياة الحسن بن علي غيلة، و ما هو موقف معاوية أو ولده أمام المسلمين لو أن جعدة كشفت أمرهما؟!
هل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالي تكون زوجة له، أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة، إن أمه فاطمة وجده الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، إذاً ما هو الشيء الذي تسعى إليه جعدة وستحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير؟!
لقد وردت الروايات التي تفيد أن الحسن قال: لقد سقيت السم مرتين، وفي رواية ثلاث مرات، وفي رواية سقيت السم مراراً، هل بإمكان الحسن أن يفلت من السم مراراً إذا كان مدبر العملية هو معاوية أو يزيد؟! نعم إن عناية الله وقدرته فوق كل شيء، ولكن كان باستطاعة معاوية أن يركز السم في المرة الأولى ولا داعي لهذا التسامح مع الحسن المرة تلو المرة!!
و إذا كان معاوية رضي الله عنه يريد أن يصفي الساحة من المعارضين حتى يتمكن من مبايعة يزيد بدون معارضة، فإنه سيضطر إلى تصفية الكثير من أبناء الصحابة، ولن تقتصر التصفية على الحسن فقط.
وإن بقاء الحسن من صالح معاوية في بيعة يزيد، فإن الحسن كان كارهاً للنزاع وفرقة المسلمين، فربما ضمن معاوية رضاه، وبالتالي يكون له الأثر الأكبر في موافقة بقية أبناء الصحابة.
ثم إن هناك الكثير من أعداء الحسن بن علي رضي الله عنه، قبل أن يكون معاوية هو المتهم الأول، فهناك السبئية الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية وجعل حداً لصراع المسلمين، وهناك الخوارج الذين قاتلهم أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النهراون وهم الذين طعنوه في فخذه، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها.
ولمزيد فائدة راجع كتاب: أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري للدكتور محمد نور ولي (ص 367 - 368) لتقف على الكم الهائل من الروايات المكذوبة على معاوية رضي الله عنه من قبل الشيعة في قضية سم الحسن .. وكتاب: مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للدكتور محمد بن عبد الهادي الشيباني (ص 120 - 125).
¥