1 - ما ثبت في الصحيحين ([57]) أن النبي e بعث إلى هرقل عظيم الروم بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، وفيه قول الله تعالى:) يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (([58]).
وكان e يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آية من كتاب الله تعالى ([59]).
فإذا جاز للكافر أن يمس كتابًا فيه آيات من القرآن، فإنه يدل على جواز ذلك للمحدث من باب أولى ([60]).
2 - أن النهي عن المس على غير طهارة إنما ورد في المصحف خاصة، وكتب العلم لا يصدق عليها اسم المصحف، فلا تثبت لها حرمته ([61])، لعدم قصد القرآن بالمس، وإنما المقصود غيره ([62]).
القول الثاني:
أنه يحرم مس شيء من كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن سواء أكانت كتب تفسير أو غيرها.
وهو قول في مذهب الشافعية ([63])، وفي مذهب الحنابلة ([64])، وذلك صيانة لما في هذه الكتب من القرآن، وتكرمة له وإجلالاً ([65]).
القول الثالث:
أنه يكره مس شيء من كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن تكرمة للقرآن وتعظيمًا.
وبهذا قال الحنفية ([66])، وبعض الشافعية ([67]).
القول الرابع:
تحريم مس كتب التفسير ([68])، دون غيرها من كتب العلم.
وهو قول في المذاهب الأربعة: الحنفية ([69])،والمالكية ([70])، والشافعية ([71])، والحنابلة ([72]).
معللين لذلك: بأن ما في كتب التفسير من القرآن كثير، فتكون في معنى المصحف، فيحرم مسها على المحدث، تعظيمًا للقرآن وإجلالاً، بخلاف غيرها من كتب العلم، فإن ما فيها من القرآن يسير غير مقصود بالمس ([73]).
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح من هذه الأقوال هو القول بجواز مس كتب العلم كلها، تفسيرًا كانت أو غيرها، لقوة أدلته، ورجحانها على استدلالات القولين الآخرين، ولما في اشتراط الطهارة لذلك مع عدم النص الموجب، من مشقة وحرج.
ومع هذا فإن الأولى والمستحب للمحدث أن لا يمس كتب العلم المتضمنة لآيات من القرآن إلا على طهارة، كما نص على ذلك كثير من العلماء ([74]).
الفرع الثاني: مس ما كُتِبَ فيه شيء من القرآن مما لا يقصد للقراءة كالدرهم، والدينار، والخاتم، والثوب، والحائط، ونحو ذلك.
وقد اختلف العلماء في حكم مس المحدث لشيء من هذه الأشياء المذكورة إذا اشتملت على آية من القرآن فأكثر، على قولين:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث مس الدرهم ونحوه مما ذكر، إذا كتب فيه شيء من القرآن.
وبهذا قال: المالكية ([75])، والشافعية ([76])، والحنابلة ([77]) في الصحيح من مذاهبهم ([78]).
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1 - أن الدرهم ونحوه إذا تضمن شيئًا من القرآن فإنه لا يسمى مصحفًا، ولا هو في معنى المصحف، والنهي عن المس للمحدث إنما يتناول المصحف خاصة ([79]).
2 - أن القرآن المكتوب في الدرهم ونحوه لا يقصد بالمس، وإنما المقصود بالمس غيره، فلذا جاز مسه وحمله ([80]).
3 - أنه كما يجوز للمحدث مس كتب العلم، والرسائل المشتملة على شيء من القرآن، فإنه يجوز له مس الدرهم ونحوه، قياسًا عليها، بل هي أولى بجواز المس ([81]).
4 - أن في منع المحدث من مس ذلك حرجًا ومشقة، وقد جاء الشرع برفع الحرج والمشقة، كما جاز للصبيان مس الألواح التي فيها قرآن دفعًا للحرج والمشقة عنهم ([82]).
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث أن يمس الدرهم ونحوه إذا تضمن آية من القرآن فأكثر.
وبهذا قال الحنفية ([83])، وهو قول في المذاهب الثلاثة: المالكية ([84])، والشافعية ([85])، والحنابلة ([86]).
واستدلوا على ذلك: بأن مس الدرهم ونحوه مما فيه آية من القرآن فيه إخلال بتعظيم كلام الله، فيحرم مسه تعظيمًا لكلام الله تعالى، كما حرم مس المصحف. وكما حرم أيضًا مس الورقة واللوح إذا تضمنا شيئًا من القرآن ([87]).
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح - والله أعلم- هو القول الأول، وهو القول بجواز مس المحدث للدرهم ونحوه إذا اشتمل على شيء من كلام الله تعالى، وذلك لقوة أدلة هذا القول، ورجحانها.
¥