وفيه معنى آخر: وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم , حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم يوطن نفسه على التقشف والتقلل , ويعلم أن المأكول أيضا من جنس الملبوس فيدخل في طريقهم على بصيرة , وهذا أمر مفهوم معلوم عند المبتدئ , والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم بهذا أنفع وأولى , وأيضا غير هذا المعنى مما يقال إنهم سموا صوفية لذلك يتضمن دعوى وإذا قيل سموا صوفية للبسهم الصوف كان أبعد من الدعوى , وكل ما كان أبعد من الدعوى كان أليق بحالهم , وأيضا لأن لبس الصوف حكم ظاهر على الظاهر من أمرهم , ونسبتهم من أمر آخر من حال أو مقام أمر باطن , والحكم بالظاهر أوفق وأولى , فالقول بأنهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضع , ويقرب أن يقال: لما أثاروا الذبول والخمول والتواضع والإنكار والتخفي والتواري , كانوا كالخرقة الملقاة والصوفية المرمية التي لا يرغب فيها ولا يلتفت إليها , فيقال (صوفي) نسبة إلى الصوفة , كما يقال (كوفي) نسبة إلى الكوفة , وهذا ما ذكره بعض أهل العلم , والمعنى المقصود به قريب ويلائم الإشتقاق , ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمنشقين والعباد.
أخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبيه , قال أخبرنا عبد الرزاق بن عبد الكريم , قال أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد , قال حدثنا أبو علي بن إسماعيل بن محمد , قال حدثنا الحسن بن عرفة , قال حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم كلم الله تعالى موسى عليه السلام كان عليه جبة صوف وسراويل صوف وكمه من صوف ونعلاه من جلد حمار غير مذكى.
وقيل: سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بسرائرهم بين يديه. وقيل: كان هذا الاسم في الأصل صفوي , فاستثقل ذلك وجعل صوفيا. وقيل سموا صوفية نسبة إلى الصفة التي كانت لفقراء المهاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذين قال الله تعالى فيهم {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض} الآية , وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي ولكنه صحيح من حيث المعنى , لأن الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك لكونهم مجتمعين متآلفين متصاحبين لله وفي الله , كأصحاب الصفة , وكانوا نحوا من أربعمائة رجل لم تكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر , جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديما وحديثا في الزوايا والربط , وكانوا لا يرجعون إلى زرع ولا ضرع ولا إلى تجارة , كانوا يحتطبون ويرضخون النوى بالنهار , وبالليل يشتغلون بالعبادة وتعلم القرآن (تلاوته) وكان رسول الله صلى اله عليه وسلم يواسيهم ويحث الناس على مواساتهم ويجلس معهم ويأكل معهم , وفيهم نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ونزل في ابن مكتوم قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} وكان من أهل الصفة , فعوقب النبي صلى الله عليه وسلم لأجلة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحهم لا ينزع يده من أيدهم , وكان يفرقهم على أهل الجدة والسعة يبعث مع كل واحد ثلاثة ومع الآخر أربعة , وكان سعد بن معاذ يحمل إلى بيته منهم ثمانين يطعمهم.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب واحد , منهم من لايبلغ ركبتيه , فإذا ركع أحدهم قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته. وقال بعض أهل الصفة: جئنا جماعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا يا رسول الله أحرق بطوننا التمر فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم قال: ما بال أقوام يقولون أحرق بطوننا التمر , أما علمتم أن هذا التمر هو طعام أهل المدينة وقد واسونا به وواسيناكم مما واسونا به , والذي نفس محمد بيده إن منذ شهرين لم يرتفع من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخان للخبز , وليس لهم إلا الأسودان الماء
¥