نعم, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله في الدنيا وزخارفها , وأصحابه على سيرته وطريقته , يعدّون الدنيا وما فيها لهوا ولعبا , زائلة فانية , والأموال والأولاد فتنة ابتلي المؤمنون بها , فلم يكونوا يجعلون أكبر همهم إلا ابتغاء مرضاة الله , يرجون لقاءه وثوابه , ويخافون غضبه وعقابه , آخذين من الدنيا ما أباح الله لهم أخذه , ومجتنبين عنها ما نهى الله عنه , سالكين مسلك الاعتدال , منتهجين منهج المقتصد , غير باغين ولا عادين , مفرطين ولا متطرفين , وعلى رأسهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون , وبقية العشرة المبشرة , ثم البدريون , ثم أصحاب بيعة الرضوان , ثم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار , ثم عامة الأصحاب , على ترتيب الأفضلية كما مرّ سابقا في الفصل الأول من هذا الباب.
وتبعهم في ذلك التابعون لهم بإحسان , واتباع التابعين , أصحاب خير القرون , المشهود لهم بالخير والفضيلة , ولم يكن لهؤلاء كلهم في غير رسول الله أسوة ولا قدوة , الذي قال فيه جل وعلا:
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 6 وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 7 وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى 8 فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 9 وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 10 وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 11}
والذي إذا وجد طعاما فأكل وشكر , وإذا لم يجد فرضي وصبر , وأحب لبس الثياب البيض , واكتسب جبّة رومية , ونهى عن التصدق بأكثر من ثلث المال , وأمر بحفظ حقوق النفس والأهل والولد , ونهى عن تعذيب النفس و اتعاب الجسد والبدن , وحرّص متبعيه على طلب الحلال , وطلب الحسنات في الدنيا والآخرة , ومنع الله تعالى من التعنت والتطرف في ترك الدنيا وطيباتها في آيات كثيرة في القرآن الكريم , سنوردها في موضعها من الكلام إن شاء الله.
ثم خلف من بعدهم خلف فتطرفوا , وذهبوا بعيدا في نعيم الدنيا وزخارفها , وفتحت عليهم أبواب الترف والرخاء , ودرّت عليهم الأرض والسماء , وأقبلت عليهم الدنيا بكنوزها وخزائنها , وفتحت عليهم الآفاق فانغمسوا في زخارفها وملذاتها , وبخاصة العرب الفاتحون الغزاة , والغالبون الظاهرون , فحصل ردّ الفعل , وفي نفوس المغلوبين المغزوين والمقهورين , من الموالي والفرس والمفلسين وأصحاب النفوس الضعيفة المتوانية خاصة , فهربوا عن الحياة ومناضلتها , وجدّها وكدّها , ولجأوا إلى الخانقاوات والتكايا والزوايا والرباطات , فرارا من المبارزة والمناضلة , وصبغوا هذا الفرار والانهزام وردّ الفعل صبغة دينية , ولون قداسة وطهارة , وتنزه وقرابة , كما كان هنالك أسباب ودوافع ومؤثرات أخرى , وكذلك أيدي خفية دفعتهم إلى تكوين فلسفة جديدة للحياة , وطراز آخر من المشرب والمسلك , وأسلوب جديد للعيش والمعاش , فظهر التصوف بصورة مذهب مخصوص , وبطائفة مخصوصة اعتنقه قوم , وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير , وتدبر عميق كمسلك الزهد , ووسيلة التقرب إلى الله , غير عارفين بالأسس التي قام عليها هذا المشرب , والقواعد التي أسس عليها هذا المذهب , بسذاجة فطرية , وطيبة طبيعية , كما تستر بقناعه , وتنقب بنقابه بعض آخرون لهدم الإسلام وكيانه , وإدخال اليهودية والمسيحية في الإسلام , وأفكارهما من جانب , والزرادشتية والمجوسية والشعوبية من جانب آخر , وكذلك الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى , وتقويض أركان الإسلام وإلغاء تعاليم سيد الرسل صلى الله عليه وسلم , ونسخ الإسلام وإبطال شريعته بنعرة وحدة الوجود , ووحدة الأديان , وإجراء النبوة , وترجيح من يسمى بالولي على أنبياء الله ورسله , ومخالفة العلم , والتفريق بين الشريعة والحقيقة , وترويج الحكايات والأباطيل والأساطير , باسم الكرامات والخوارق وغير ذلك من الخلافات والترهات.
فلم يظهر التصوف مذهبا ومشربا , ولم يرج مصطلحاته الخاصة به , وكتبه , ومواجيده وأناشيده , تعاليمه وضوابطه , أصوله وقواعده , وفلسفته , ورجاله وأصحابه إلا في القرن الثالث من الهجرة وما بعده.
وبذلك يقول ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس:
¥