وقال الآخرون: إن التصوف وليد الأفكار المختلطة من الإسلام واليهودية والمسيحية ومن المانوية والمجوسية والمزدكية , وكذلك الهندوكية والبوذية , وقبل كل ذلك من الفلسفة اليونانية وآراء الأفلاطونية الحديثية , وتمسك بهذا الرأي بعض الكتّاب في الصوفية من المسلمين وغير المسلمين.
فهذه هي خلاصة الاختلاف والآراء المختلفة في أصل التصوف ومأخذه , ننقاشها في هذا الباب , وندعم رأينا الذي نراه من بين هذه الآراء المتعددة , بالأدلة والشواهد , الخارجية منها والداخلية , فنقول: إن أفضل طريق للحكم على طائفة معينة وفئة خاصة من الناس هو الحكم المبني على آرائه وأفكاره التي نقلوها في كتبهم المتعمدة والرسائل الموثوق بها لديهم بذكر النصوص والعبارات التي يبني عليها الحكم , ويؤسس عليها الرأي ولا يعتمد على أقوال الآخرين ونقول الناقلين , اللهم إلا للاستشهاد على صحة استنباط الحكم وإستنتاج النتيجة.
وهذه الطريقة ولو أنها طريقة وعرة شائكة , صعبة مستعصبة , وقل من يختارها ويسلكها , ولكنها هي الطريقة الصحيحة المستقيمة التي يقتضيها العدل والإنصاف.
وعلى ذلك عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر , وأقاويلهم المنقولة منهم , والمأثورة في كتب الصوفية , القديمة والحديثة نفسها , نرى بونا شاسعا بينهما وبين تعاليم القرآن والسنة , وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون , بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية , والبرهمة الهندوكية , وتنسك اليهودية , وزهد البوذية , والفكر الشعوبي الإيراني المجوسي عند الأوائل , والغنوصية اليونانية والأفلاطونية الحديثة لدى الذين جاءوا من بعدهم , وتدل على ذلك تعريفات القوم للتصوف , التي نقلناها عن كبارهم فيما سبق.
وكما تنطق وتشهد تعاليمهم التي هي بمثابة الأسس للتصوف , والضوابط لمن يدخل في طريقتهم.
فنبدأ أولا بإبراهيم بن أدهم , وهو من الطبقة الأولى وأئمة التصوف الأوائل , وكثيراً ما تبدأ كتب طبقات الصوفية بذكره واسمه , ولا يخلوا كتاب من كتب التصوف وسيرته.
ومما يذكر بيانا لشأنه الرفيع ومكانته السامية أنه كان من أبناء الملوك وملكا لبلخ , وتزوج من امرأته جميلة , وله ولد , ولكنه ترك الملك والزوجة والأولاد , وكل من كان يملكه , للنداء الغيبي , أو للقاء الخضر الذي لقنه ذلك , مثل ما ترك بوذا ملكه وزوجته , وأبنه وملاذ الدنيا وزخارفها طبقا بطبق , وحذو القذة بالقذة , خلافا لتعاليم الإسلام وأسوة الرسول وسيرة الصحابة , ولا يوجد له أي مثال في الكتاب ولا في السنة , ولا من السلف الصالح ومع ذلك يبجّل الصوفية ذكره , ولذلك يجعلونه قدوة يقتدى , ومثالا يحتذى , ويفتخرون بذكره وأحواله , مع أن أحواله تلك ليست إلا ناطقة بالبوذية المنسوخة الممسوخة التي لم ينزل الله بها من سلطان.
فنود أن نورد تلك الحكاية الصوفية الباطلة , من التصوف القديم الأصيل , ومن الصوفي الذي يعدّ من الأعلام والأقطاب مقارنة بقصة بوذا , المنقولة من الكتب البوذية , ولبيان أنها تشتمل على ترهات وأكاذيب فاحشة مكشوفة تنطق بكونها مختلفة موضوعة مكذوبة , وننقل هذه القصة من تذكرة صوفية قديمة (تذكرة الأولياء) لفريد اليدن العطار , مقتبسين ترجمتها العربية من صادق نشأت:
(إن إبراهيم بن أدهم كان ملكا لبلخ , وتحت إمرته عالم , وكانوا يحملون أربعين سيفا من الذهب وأربعين عمودا من الذهب من أمامه ومن خلفه , وكان نائما ذات ليلة على السرير , فتحرك سقف البيت ليلا , كأنما يمشي أحد على السطح , فنادى: من هذا .. ؟ فقال: صديق فقدت بعيرا أبحث عنه على هذا السقف , فقال: أيها الجاهل , أتبحث عن البعير فوق السطح ... ؟ فقال له: وأنت أيها الغافل تطلب الوصول إلى الله في ثياب حريرية وأنت نائم على سرير من ذهب ... ؟ فوقعت الهيبة في نفسه من هذا الكلام , واندلعت في قلبه نار , فلم يستطع النوم حتى الصباح , وعندما أشرق الصبح ذهب إلى الإيوان وجلس على السرير متحيرا مفكرا حزينا , ووقف أركان الدولة كل في مكانه واصطف الغلمان وأذنوا إذنا عاما , فدخل رجل مهيب من الباب بحيث لم يكن لأي أحد من الخدم أو الحشم الجرأة على أن يقول له من أنت , ولم ينبسوا
¥