وتلك هي أقوال الصوفية , التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب , والمنهل الصافي , بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك , ونساك الجينية , ورهبان المسيحية. وأمر أولئك في هذا الباب مشهور ومعروف لا يحتاج إلى كثير من البيان , ولكن لإقامة البرهان ننقل بعض آيات من إنجيل , فقال المسيح:
(ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات , من استطاع أن يقبل فليقبل).
ويقول رسول المسيحيين في رسالته إلى أهل كورنتوس:
(وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة).
وكذلك يقول:
(أقول لغير المتزوجين والأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا).
ويقول: (فأريد أن تكونوا بلاهم. يهتم فيما للرب كيف يرضى الرب. وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضى امرأته. إن بين الزوجة والعذراء فرقا. غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدمة جدا وروحا. وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف ترضى رجلها.
هذا أقوله لخيركم ليس لكي ألقى عليكم وهقا , بل لأجل اللياقة والمثابرة للرب من دون ارتباك. ولكن إن كان يظن أنه يعمل بدون لياقه نحو عذرائه إذا تجاوزت الوقت , وهكذا لزم أن يصبر فليفعل ما يريد. إنه لا يخطئ فيتزوجا. وأما من أقام راسخا في قلبه وليس له سلطان على إرادته , وقد عزم على هذا في قلبه أن يحفظ عذراء فحسنا يفعل. إذن من زوج فحسنا يفعل. ومن لا يزوج يفعل أحسن).
هذا ومثل هذا كثير.
هذه هي تعاليم المسيحية , المنقولة منهم تجاه الزواج , ومن هذه التعاليم تأثر وليّ من أولياء المسيحية اوريغن ( ORIGEN ) الذي يعدونه أحد القديسين , العائش ما بين 185 و 254 , وجبَّ ذكره.
والجدير بالذكر أن أحد المتصوفة أتى بمثل هذا العمل , وفعل فعلته فيه كما ذكر الشعراني أن عبد الرحمن المجذوب:
(كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر , وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه يقول: ما رأيت قط أحدا من أرباب الأحوال دخل مصر إلا ونقص حاله إلا الشيخ عبد الرحمن المجذوب , وكان مقطوع الذكر قطعه بنفسه أوائل جذبه).
وصوفي هندي آخر أيضا فعل ذلك.
وكتب هينس ( HANS ) ( أن المسيحيين القدامى كانوا يعدون ترك الزواج من الأمور الواجبة والمحببة إلى الله , والمقربة إلى ملكوته).
ومن خصائص المسيحية وتعاليمها ترك الدنيا , والتجرد عن المال , والتجوع , وتعري الأجساد والأعراض عن زينة الحياة , المباحة , وتحريم الطيبات باسم الانقطاع إلى الآخرة , ورهبانية ابتدعوها , وتعذيب النفس.
فلقد ورد في الأناجيل عن المسيح أنه قال:
(لا تكنزوا كنوزا على الأرض , حيث يفسد السوس والصدأ , وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ , وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا).
ونقل عنه أيضا أنه قال:
(لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويجب الآخر , أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسامكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام , والجسد أفضل من اللباس. أنظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن , وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة , ولماذا تهتمون باللباس , تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل , ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها , فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا , أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم قليلي الإيمان , فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل , أو ماذا نلبس , فإن هذه كلها تطلبها الأمم.
لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها , لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره , وهذه كلها تزداد لكم.
فلا تهتموا للغد , لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره).
وورد في هذا الإنجيل أيضا (أن شابا تقدم إلى المسيح وقال له: أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل به لتكون لي الحياة الأبدية؟.
¥