أثناسيوس ضد اتباع أريوس , وكان يليه في شهرته باخوم الذي أنشأ في عام 325 تسعة أديرة للرجال وديراً واحداً للنساء. وكان سبعة آلاف من أتباعه الرهبان يجتمعون أحيانا ليحتفلوا بيوم من الأيام المقدسة , وكان أولئك الرهبان المجتمعون يعملون ويصلون , ويركبون القوارب في النيل من حين إلى حين ليذهبوا إلى الإسكندرية حيث يبيعون ما لديهم من البضائع ويشترون حاجياتهم ويشتركون في المعارك الكنسية – السياسية.
ونشأت بين النساك الفرادى منافسة قوية في بطولة النسك يتحدث عنها دوشين Abbe Duchesne بقوله إن مكاريوس الإسكندري (لم يكن يسمع بعمل من أعمال الزهد إلا حاول أن يأتي بأعظم منه) , فإذا امتنع غيره من الرهبان عن أكل الطعام المطبوخ في الصوم الكبير امتنع هو عن أكله سبع سنين , وإذا عاقب بعضهم أنفسهم بالامتناع عن النوم شوهد مكاريوس وهو (يبذل جهد المستميت لكي يظل مستيقظاً عشرين ليلة متتابعة) وحدث مرة في صوم كبير أن ظل واقفا طوال هذا الصوم ليلا ونهارا لا يذوق الطعام إلا مرة واحدة في الأسبوع , ولم يكن طعامه هذا أكثر من بعض أوراق الكرنب , ولم ينقطع خلال هذه المدة عن ممارسة صناعته التي اختص بها وهي صناعة السلال. ولبث ستة أشهر ينام في مستنقع , ويعرض جسمه العريان للذباب السام. ومن الرهبان من أوفوا على الغاية في أعمال العزلة , من ذلك سرابيون Serapion الذي كان يعيش في كهف في قاع هاوية لم يجرؤ على النزول إليها إلا عدد قليل من الحجاج. ولما وصل جيروم وبولا إلى صومعته هذه وجدوا فيها رجلا لا يكاد يزيد جسمه على بضعة عظام وليس عليه إلا خرقة تستر حقويه , ويغطي الشعر وجهه وكتفيه , ولا تكاد صومعته تتسع لفراشه المكون من لوح من الخشب وبعض أوراق الشجر. ومع هذا فإن هذا الرجل قد عاش من قبل بين أشراف رومة , ومن النساك من كانوا لا يرقدون قط أثناء نومهم ومنهم من كان يداوم على ذلك أربعين عاما مثل بساريون Bessarion أو خمسين عاما مثل باخوم. ومنهم من تخصصوا في الصمت وظلوا عددا كبيرا من السنين لا تنفرج شفاههم عن كلمة واحدة. ومنهم من كانوا يحملون معهم أوزانا ثقالا أينما ذهبوا. ومنهم من كانوا يشدون أعضاءهم بأطواق أو قيود أو سلاسل , ومنهم من كانوا يفخرون بعدد السنين التي لم ينظروا فيها إلى وجه امرأة. وكان النساك المنفردون جميعهم تقريبا يعيشون على قدر قليل من الطعام. ومنهم من عمروا طويلا. ويحدثنا جيروم عن رهبان لم يطعموا شيئا غير التين وخبز الشعير , ولما مرض مكاريوس جاءه بعضهم بعنب فلم تطاوعه نفسه على التمتع بهذا الترف , وبعث به إلى ناسك آخر , وأرسله هذا إلى ثالث حتى طاف العنب جميع الصحراء (كما يؤكد لنا روفينس) , وعاد مرة أخرى كاملا إلى مكاريوس. وكان الحجاج , الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم المسيحي لشاهدوا رهبان الشرق , يعزون إلى أولئك الرهبان معجزات لا تقل في غرابتها عن معجزات المسيح , فكانوا – كما يقولون - يشفون الأمراض ويطردون الشياطين باللمس أو بالنطق بكلمة , وكانوا يروضون الأفاعي أو الآساد بنظرة أو دعوة , ويعبرون النيل على ظهور التماسيح , وقد أصبحت مخلفات النساك أثمن ما تملكه الكنائس المسيحية , ولا تزال مدخرة فيها حتى اليوم.
وكان رئيس الدير يطلب إلى الرهبان أن يطيعوه طاعة عمياء , ويمتحن الرهبان الجدد بأوامر مستحيلة التنفيذ يلقيها عليهم , وتقول إحدى القصص إن واحداً من أولئك الرؤساء أمر راهباً جديداً أن يقفز في نار مضطرمة فصدع الراهب الجديد بالأمر , فانشقت النار حتى خرج منها بسلام. وأمر راهب جديد آخر أن يغرس عصا رئيسه في الأرض ويسقيها حتى تخرج أزهراً , فلبث الراهب عدة سنين يذهب إلى نهر النيل على بعد ميلين من الدير يحمل منه الماء ليصبه على العصا , حتى رحمه الله في السنة الثالثة فأزهرت. ويقول جيروم إن الرهبان كانوا يأمرون بالعمل (لئلا تضلهم الأوهام الخطرة). فمنهم من كان يحرث الأرض , ومنهم من كان يعني بالحدائق أو ينسج الحصر أو السلاسل , أو يصنع أحذية من الخشب , أو ينسخ المخطوطات. وقد حفظت لنا أقلامهم كثيرا من الكتب القديمة. على أن كثيرين من الرهبان المصريين كانوا أميين يحتقرون العلوم الدنيوية ويرون أنها غرور وباطل. ومنهم من كان يرى أن النظافة لا تتفق مع الإيمان , وقد أبت
¥