المستقيم. فقال لي: يا إبراهيم! إلام تطلب الناس؟ إمض واطلب نفسك , وإذا وجدتها فاحرسها , لأن الهوى يرتدي ثوب الإلهية كل يوم على ثلثمائة وستين لونا , ويدعو العبد إلى الضلالة).
وذكر الشعراني أن بعض أسلاف الصوفية حاولوا تقرير مذهب رهبان النصارى , وكونهم على الحق والصواب , ومن قبل رسول الله الناطق بالوحي صلوات الله وسلامه عليه – كذبا وزورا -: (أن قوله صلى الله عليه وسلم: دعوا الرهبان وما انقطعوا إليه , تقرير لهم على ما هم عليه من حيث عموم رسالته صلى الله عليه وسلم كما قرر أهل الكتاب على سكنى دار الإسلام بالجزية.
قالوا: وهي مسألة خفية جليلة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم. لا ينتبه لها إلا الغواصون على الدقائق).
هذا ولقد ذكر في طبقاته عن صوفي آخر – وهو إبراهيم بن عصفير – الذي يقول عنه: (كان كثير الكشف , وله وقائع مشهورة , وظهرت له الكرامات وهو صغير , وكان يأتي البلد وهو راكب الذئب أو الضبع , وكان يمشي على الماء لا يحتاج إلى مركب , وكان بوله كاللبن الحليب أبيض , ... وما ضبطت عليه كشفا أخرم فيه. يكتب عن هذا الصوفي الذي بلغ أقصى درجات الولاية:
(كان أكثر نومه في الكنيسة , ويقول: النصارى لا يسرقون النعال في الكنيسة بخلاف المسلمين , وكان رضي الله عنه يقول: أنا ما عندي من صوم حقيقة إلا من لا يأكل لحم الضأن أيام الصوم كالنصارى , وأما المسلمون الذين يأكلون لحم الضأن والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل).
وكذلك وجد مدح الرهبان النصارى في كتب صوفية كثيرة مثل ما ذكر الأصبهاني في حليته عن عبد الله بن الفرج أنه قال له رجل:
(يا أبا محمد , هؤلاء الرهبان يتكلمون بالحكمة وهم أهل كفر وضلالة , فمم ذلك؟
قال: ميراث الجوع , متعت بك).
وأيضا ذكر عن إبراهيم بن الجنيد أنه قال:
وجدت هذه الأبيات على ظهر كتاب لمحمد بن الحسين البرجلاني:
(مواعظ رهبان وذكر فعالهم وأخبار صدق عن نفوس كوافر
مواعظ تشفينا فنحن نحوزها وإن كانت الأنباء عن كل كافر
مواعظ بر تورث النفس عبرة وتتركها ولهاء حول المقابر
مواعظ أنَّى تسأم النفس ذكرها تهيج أحزانا من القلب ثائر).
ومثل ذلك ما نقله أبو طالب المكي عن عيسى عليه السلام أنه قال:
(المحب لله يحب النصب. وروى عنه أنه مر على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية , فقال: ما أنتم؟
فقالوا: نحن عباد. قال: لأي شيء تعبدتم؟
قالوا: خوفنا الله من النار فخفنا منها , فقال: حق على الله أن يؤمنكم ما خفتم.
ثم جاوزهم فمر بآخرين أشد عبادة منهم , فقال: لأي شيء تعبدتم؟
قالوا: شوقنا الله إلى الجنان وما أعد فيها لأوليائه , فنحن نرجو ذلك , فقال: حق على الله أن يعطيكم ما رجوتم.
ثم جاوزهم , فمر بآخرين يتعبدون , فقال: ما أنتم؟
قالوا: نحن المحبون لله لم نعبده خوفا من نار , ولا شوقا إلى جنة ولكن حبا له وتعظيما لجلاله , فقال: أنتم أولياء الله حقا , معكم أمرت أن أقيم , فأقام بين أظهرهم وفي لفظ آخر قال للأولين: مخلوقا خفتم , ومخلوقا أحببتم. وقال لهؤلاء: أنتم المقربون).
(ويستخلص من هذا أن الصوفية المسلمين لم يجدوا حرجا في الإستماع إلى مواعظ الرهبان وأخبار رياضاتهم الروحية والإستفادة منها , رغم أنها صادرة عن نصارى , ونحن نجد فعلا كثيرا من أخبار رياضات الرهبان وأقوالهم في ثنايا كتب الصوفية وطبقات الصوفية).
وقبل هذا كتب الدكتور البدوي في هذا الكتاب الذي اقتبسنا منه الأسطر الأخيرة , والذي دافع فيه عن التصوف دفاعا شديدا , وحاول فيه محاولة فاشلة لإثبات أصول التصوف ومصادره في الإسلام , ومن تعاليمه , كتب فيه:
(الاختلاط بين المسلمين والنصارى العرب في الحيرة والكوفة ودمشق ونجران وخصوصا في مضارب القبائل العربية التي انتشرت فيها المسيحية قبل الإسلام وبعده: بنو تغلب , قضاعة , تنوخ , وتتحدث بعض الأحبار عن أن بعض الصوفية المسلمين الأوائل كانوا يستشيرون بعض الرهبان النصارى في أمور الدين: كما يروي عبد الواحد بن زيد , والعتابي , وأبي سليمان الداراني).
وهذه هي الأشياء التي جعلت نيلكسون الإنجليزي , وفون كريمر الألماني , وجولد زيهر النمساوي يضطرون إلى أن يقولوا , واللفظ للأول:
¥