(ومع هذا لا ننكر تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية , على نحو ما نجد عند الحلاج الذي استخدم في تصوفه اصطلاحات مسيحية كالكلمة واللاهوت والناسوت وما إليها , ولكن هذا لم يظهر إلا في وقت متأخر (أواخر القرن الثالث الهجري) بعد أن كان زهد الزهاد قد استقر في القرنين: الأول والثاني الهجريين , واصبح دعامة لكل تصوف لاحق.
ولذلك فإن من الإنصاف العلمي القول بأن مذاهب الصوفية في العلم , ورياضاتهم العلمية , ترد إلى مصدر إسلامي , إلا أنه بمرور الوقت وبحكم التقاء الأمم واحتكاك الحضارات , تسرب إليها شيء من المؤثرات المسيحية أو غير المسيحية , فظن بعض المستشرقين خطأ أن الصوفية أخذوا أول ما أخذوا عن المسيحية).
فهذه هي خلاصة الكلام في ذلك , نكتفي بها ظانين بأنها كافية لجلاء الموضوع , وتنوير الطريق لمن أراد أن يتقدم إليه ويسلك فيه.
المذاهبُ الهنْديّة وَ الفَارسيَّة
وأما كون التصوف وتعاليمه وفلسفته , أوراده وأذكاره , وطرق الوصول إلى المعرفة , والمؤدية إلى الفناء , مأخوذة مستقاة من المذاهب الهندية والمانوية , والزرادشتية أيضا فلا ينكرها منكر , ولا يردها أحد , ولا يشك فيها شاك , بل إن كبار الكتاب عن التصوف والباحثين فيه من المستشرقين والمسلمين , وحتى الصوفية أقروا بذلك حيث لم يسعهم إلا الاعتراف بهذه الحقيقة الظاهرة الجلية التي لا يمكن تجاهلها ولا إغفالها البتة.
فإن الأستاذ أبا العلاء العفيفي كتب في ثنايا بحثه عن المشتغلين من المستشرقين في الدراسة عن التصوف:
(وأما ريتشورد هارتمان , وماركس هورتين فنزعتهما واحدة: وهي أن التصوف يستمد أصوله من الفكر الهندي , وإن كان هورتين قد بذل من المجهود في إثبات هذه النظرية ما لم يبذله أي كاتب آخر. فقد كتب في سنتي 1927 , 1928 مقالتين حاول أن يثبت في إحداهما , بعد تحليل تصوف الحلاج والبسطامي والجنيد , أن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعا بالأفكار الهندية , وأن الأثر الهندي أظهر ما يكون في حالة الحلاج. وفي المقالة الثانية يؤيد النظرية نفسها عن طريق بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا , وينتهي إلى أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب الفيدانتا الهندية.
ويستند هارتمان في إثبات نفس الدعوى إلى النظر في الصوفية أنفسهم وفي مراكز الثقافة القديمة التي كانت منتشرة في بلادهم , لا إلى المصطلحات الصوفية كما فعل هورتن. وقد نشر في مسألة أصل التصوف مقالا هاماً سنة 1916 في مجلة Der Islam وخلاصة بحثه أن التصوف الإسلامي مدين للفلسفة الهندية التي وصلت إليه عن طريق مترا وماني من جهة , وللقبّالة اليهودية والرهبنة المسيحية والغنوصية والأفلاطونية الحديثة من جهة أخرى. وهو يرى أن الذي جمع هذه العناصر كلها ومزجها مزجا تاما في التصوف هو أبو القاسم الجنيد البغدادي (المتوفى سنة 297 هـ) , فإليه يجب أن تتجه عناية الباحثين. أما حججه في تأييد الأصل الهندي فهي:
أولا: أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وأبي يزيد البسطامي ويحيى بن معاذ الرازي.
ثانيا:أن التصوف ظهر أولا وأنتشر في خراسان.
ثالثا: أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية , فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة. وهذا كلام أشبه ما يكون بماذكره كل من ثولك وفون كريمر في هذا الموضوع.
رابعا: أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود الأثر الهندي.
خامسا: أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته وأساليبه. فالرضا فكرة هندية الأصل , واستعمال الزهاد للمخلاة في سياحتهم , واستعمالهم للسبح , عادتان هنديتان).
ثم علق الأستاذ عفيفي على كلام هورتمان بقوله:
(ولكن المسألة أعقد من ذلك بكثير , فقد تبين لي من البحث في تصوف مشايخ خراسان وتصوف مدرسة نيسابور خاصة , أنه وإن كانت له صبغة محلية إلى حد ما , متأثر بتيارات غير محلية وصلت إليه من مراكز التصوف الأخرى في العراق والشام , وأنه كانت لبعض الحركات غير الدينية – كحركة الفتوة التي كانت في بدء أمرها اجتماعية بحتة – شأن كبير في تشكيل بعض تعاليم هؤلاء الصوفية).
¥