قال: وهذا الطريق الذي هو طريق الله تعالى لا بدّ فيه من طول المجاهدة ومقاساة ما يحتمله الأسماع والقلوب من الشدائد لو حلّت بها ... وكنت أحيانا في بدو المجاهدة وأحوال الذكر لو استتر مني في السماء لكان الستر على أهون من أن أقوم للأكل , وأتحرك للوضوء والفرض لأنه كان يعيب عني الذكر).
وذكر الشعراني عن سيده البدوي أنه لازم الصمت , وما كان يكلم الناس إلا بالإشارة.
وملازمة الصمت من العادات البوذية كما يظهر من تماثيل بوذا.
وكذلك ذكر الشعراني أيضا عن سيده عبد الرحمن المجذوب أنه كان ثلاثة أشهر يتكلم , ثلاثة أشهر يسكت.
وهناك عقيدة بوذية تسمى سمادهي ( SAMADHI ) وهذه آخر درجات الذاكر يفنى فيها ذاته في الذات الإلهي.
يذكر نفس هذا الشيء صوفي مشهور بحرق الحضرمي في رسالته (ترتيب السلوك) , فيقول: من لم يتيسر له شيخ , وأراد دخول الخلوة فليقدم الاغتسال , وغسل ثيابه ومصلاه , ويهيئ أسبابه بحيث لا يحتاج إلى الخروج , ويرتب لحوائجه من قوت وغيره ... ثم ليلازم الجوع فيكون صائما مقتصرا على قدر معلوم من الطعام والماء مقتصدا لا يزيد عليه أبدا , وليلازم السهر فلا ينام إلا في وقت معلوم , وليلازم الذكر فيقتصر على ملازمة ذكر واحد.
ينطق بذلك الذكر بعينه بحيث يظن من يسمعه أن معه في خلوته ألف ذاكر لله , ثم يغلب عليه حال الذكر فلا ينظر في الوجود شيئا يقع عليه نظره إلا معلنا بذلك الذكر بعينه بحيث لو كان عنده ألف شخص , كل منهم يذكر بذكر مخالف للآخر لم يسمعهم ينتطقون إلا بذكره الذي غلب عليه , وحينئذ يبقى منتظرا لما يفتح الله به على قلبه من رحمته وعلم غيبه , وأول ما يظهر غالبا أنوار إلهية كأنها البرق الخاطف تلمع بسرعة , ويختفي وهي لذيذة جدا يحصل بوجودها الوجد , وباختفائها الحنين إليها , وبما غشيته أنوارها.
ثم يصير قلبه كالمرآة المجلوه فيكون مقابلا للجناب القدس , فيصير كل شيء كأنه مشاهد للحق سبحانه علما وحالا فانيا عن نفسه , فضلا عن خيرها , فحينئذ يعبد الله كأنه يراه ويشهده.
وأما الفناء في الشيخ فيذكر الشعراني في كتابه (الأنوار القدسية):
(اعمل أيها المريد على أن تتحد بشيخك , فيكون ما عنده من المعارف عندك على حدّ سواء ويكون تميزه عليك إنما هو بالإضافة لا غير , قال: وقد قال لي الشيخ أبو الحسن الشاذلي يوما: يا أبا العباس , ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت).
وأما تعذيب النفس , وحبس الدم , والرياضات الشاقة فمنها ما ذكرناها أثناء الوقائع التي سردناها آنفا.
ومن ذلك ما ذكره الشعراني في طبقاته عن البدوي انه:
(كان طول نهاره وليله قائما شاخصا ببصره إلى السماء وقد انقلب سواد عينيه بجمرة تتوقد كالجمر. وكان يمكث الأربعين يوما وأكثر لا يأكل ولا يشرب ولا ينام).
ويقول المنوفي , وأبو الهدى الرفاعي أن مكوثه هذا امتدّ إلى اثنتي عشرة سنة حيث يقولان: (ومكث على السطوح حوالي اثنتي عشرة سنة).
ويذكر الطوسي والقشيري والعطار والهجويري والغزالي والشعراني وغيرهم
(أن الشبلي كان يكتحل بالملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم , وأحيانا كان يحمي الميل فيكتحل به).
وينقل القشيري في رسالته (ترتيب السلوك):
(كنت أريد أن لا أنام لئلا أغيب عن الذكر لحظة , فكنت أقعد على حجر ناتئ من جدران بيتنا من الحجر قدر ما أضع عليه قدمي , وتحتي واد , وفوقي شاهق حتى لا يأخذني النوم).
وكتب الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر سابقا , وصوفي مشهور , عن أحمد الدردير أنه ردد الذكر ستة أشهر حتى أحرق الذكر جسمه , وأذهب لحمه ودمه حتى صار مجرد الجلد على العظم).
وذكر الدريني عبد العزيز الصوفي المتوفى 697هـ عن داود بن أبي هند أنه
(صام أربعين سنة لم يعد الناس عنه ولا أهل بيته , وكان يؤتى بالإناء ناقصاً فيتمه بالدموع).
ويذكر الطوسي عن أبي عبد الله الصبيحي أنه:
(لم يخرج ثلاثين سنة من بيت من تحت الأرض).
ويذكر فريد الدين العطار عن الصوفي المشهور أبي بكر الشبلي أنه (كانت في يده قضيب يضرب به فخذه وساقه حتى تبدد لحمه وتناثر).
وحكى عبد العزيز الدباغ عن صوفي أنه (رمى بنفسه في بداية مجاهدته من حلقة داره إلى أسفل تسعين مرة).
¥