قال الجاحظ: (إن هؤلاء سياح والسياحة بالنسبة لهم في حكم التوقف واعتزال الساطرة في الصوامع والأديرة , وتلك الجماعة يسافرون دائما اثنين اثنين ويسيحون بحيث إذا رأى الإنسان واحدا منهم يتيقن أن الثاني ليس ببعيد عنه إلى حد ما , وسيظهر قريبا. ومن عاداتهم أنهم لا ينامون ليلتين في مكان واحد , ولهؤلاء السياح خصال أربع: القدس والطهر والصدق والمسكنة).
وهؤلاء السياح تركوا بدورهم أثرا في صوفية المسلمين كما أثر فيهم أيضا السياح والمتجولون والمرتاضون من البوذيين الذين أذاعوا قصة بوذا وقدموه مثالا للزهد والإعراض عن الدنيا , بحيث أن المرتاضين كانوا يعرفونه في كتاباتهم بالمثال الكامل للزهد. وهو الأمير القوي الشكيمة الذي رمى الدنيا ظهريا وحرر نفسه. أو يقولون أنه أسير جدير بالثناء خليق بالاحترام متزييا بزي الفقراء. وهذا الموضوع أوجد قصصا ذات صور مختلفة والنقطة الهامة التي يجب ألا تنسى هي أن الديانة البوذية كانت قد انتشرت في شرق إيران أي بلخ وبخارى وفي ما وراء النهر كذلك قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة , وكانت لها صوامع ومعابد مشهورة وكانت معابد بلخ البوذية أكثر شهرة بنوع خاص , وصارت بلخ ونواحيها من أهم المراكز الصوفية في القرون الإسلامية الأولى , وكان صوفيو خراسان يعدون في الرعيل الأول من الصوفية في الشجاعة الفكرية والحرية الشخصية , والعقيدة المعروفة (بالفناء في الله) المقتبسة من الأفكار الهندية إلى حد ما والتي انتشرت على الأكثر بواسطة صوفية خراسان. مثل أبي يزيد البسطامي وأبي سعيد الخير).
وقبل أن ننتقل إلى فكرة أخرى نريد أن نلفت الأنظار إلى أن معتنقي البوذية والجينية والديانات الهندية الأخرى كان لهم أن يترهبوا , ويتجردوا عن الدنيا وما فيها , ويختاروا العزلة والخلوة , ويتيهوا في المفاوز والخلوات , ويعيشوا في المغارات والخانقاوات , ويعذبوا أنفسهم , ويأتوا بالمجاهدات والرياضات , ويتحملوا المشاق , ويتعمقوا في المراقبات والمكاشفات وغير ذلك من الأمور , لأن قادتهم وزعماءهم , هداتهم ومرشديهم فعلوا مثل ذلك لحصول المعرفة , واكتشاف الحق , والوصول إلى طمأنينة الروح والقلب , والاتصال بالخالق والاتحاد به – حسب زعمهم – تشبها لهم واقتداء بهم , وتمسكا بأسوتهم , واقتفاء آثارهم ومناهجهم.
فعلى المتبعين أن يسلكوا جميع تلك المراحل التي سلكها سادتهم وكبراؤهم , وأن يكابدوا في هذا السبيل تلك الآلام التي تكبدها أولئك.
وكذلك النصارى.
أولا: لأنه نقل عن مسيحهم ما يشجعهم على التبتل والعزلة.
ثانيا: أن حواريي المسيح , وقدّيسي المسيحية الأوائل تحملوا أنواعا من العذاب في سبيل التمسك بمذهبهم , فأوذوا وأجبروا على ترك المساكن والمواطن وعاشوا في الصحارى والمغارات فرارا بدينهم , وحفاظا على إيمانهم , فحبس منهم وقتّل منهم كثيرون , وعذّب الآخرون.
فتأسيا بهم وتقديرا لهم حرموا أنفسهم من ملذات الدنيا ونعيمها , وألزموا عليهم العزبة والجوع والمشاق , وهجروا العيش بين الأهل والأولاد.
وأما المسلمون فلا نبيّهم أمرهم بذلك , ولا أصحابه ورفاقه الأبرار خيرة خلق الله , وأبرار هذه الأمة عملوا به , ودينهم دين الاعتدال والدين الوسط , الناسخ لجميع الشرائع السماوية منها والأرضية , الإلهامية وغير الإلهامية.
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
والذي كمل قبل انتقال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}
وما لم يكن فيهما فهو ابتداع وإحداث فيه , وليس منه , ولا له علاقة به.
ولا ندري ممن أخذ متصوفة المسلمين ونساكهم من المسلمين هذا المنهج والمسلك الذي بنوا عليه تصوفهم وزهدهم. اللهم إلا ممن ذكرناهم من المسيحية , وأصحاب الديانات الهندية , وهذه أحوال معتدلي الصوفية ومتقدميهم.
وأما المتطرفون والمتأخرون فقد زادوا على هذين المصدرين مصدرا آخر استقوا منه فلسفتهم ومشربهم , وتشبثوا بآرائه ومقولاته. وهو الأفلاطونية الحديثة.
الأفلاَطونيّة الحَدِيثَة
¥