وأما الحكيم الترمذي الذي منه أخذ ابن عربي تلك الفكرة في أخذ النبي العلم والمعرفة من الملك , وأخذ الوليّ بدون واسطة , فيقول في جواب سؤال: ما الفرق بين النبوة والولاية؟:
(الفرق بين النبوة والولاية أن النبوة كلام ينفصل من الله وحيا , ومعه روح من الله فيقضي الوحي ويختم بالروح ... والولاية لمن ولى الله حديثه على طريق أخرى , فأوصله إليه فله الحديث , وينفصل ذلك الحديث من الله عز وجل , على لسان الحق معه السكينة , تتلقاه السكينة في قلب المحدّث , فيقبله ويسكن إليه).
ثم يذكر خاتم الأولياء فيقول:
(لما قبض الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم صيّر في أمته أربعين صديقا بهم تقوم الأرض , وهم آل بيته , فكلما مات واحد منهم خلفه من يقوم مقامه , حتى إذا انقرض عددهم وأتى وقت زوال الدنيا إبتعث الله وليا اصطفاه واجتباه , وقرّبه وأدناه , وأعطاه ما أعطى الأولياء , وخصّه بخاتم الولاية , فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء فيوجد عنده بذلك الختم صدق الولاية على سبيل ما وجد عند محمد صلى الله عليه وسلم من صدق النبوة فلم ينله العدو , ولا وجدت النفس إليه سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية.
فإذا برز الأولياء يوم القيامة و اقتضوا صدق الولاية والعبودية وجد الوفاء عند هذا الذي ختم الولاية تماما , فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم , وكان شفيعهم يوم القيامة , فهو سيدهم , ساد الأولياء , كما ساد الأنبياء , فينصب له مقام الشفاعة , ويثني على الله تعالى ثناء ويحمده بمحامد يقرّ الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله تعالى.
فلم يزل هذا الولي مذكورا في البدء , أولا في الذكر , وأولا في العلم , ثم هو الأول في المشيئة , ثم هو الأول في اللوح المحفوظ , ثم الأول في الميثاق , ثم الأول في المحشر , ثم الأول في الجوار , ثم الأول في الخطاب , ثم الأول في الوفادة , ثم الأول في الشفاعة , ثم الأول في دخول الدار , ثم الأول في الزيارة , فهو في كل مكان أول الأولياء).
وقد سئل: أين مقامه؟ فقال:
(في أعلى منازل الأولياء , في ملك الفردانية , وقد انفرد في وحدانيته , ومناجاته كفاحا في مجالس الملك , وهداياه من خزائن السعي.
قال: وما خزائن السعي؟
قال: إنما هي ثلاث خزائن: المنن للأولياء , وخزائن السعي لهذا الإمام القائد , وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام , فهذا (خاتم الأولياء) مقامه من خزائن المنن , ومتناوله من خزائن القرب , فهو في السعي أبدا , فمرتبته هنا , ومتناوله من خزائن الأنبياء عليهم السلام , قد انكشفت له الغطاء عن مقام الأنبياء ومراتبهم وتحفهم).
ويقول أيضا:
(وقد يكون في الأولياء من هو أرفع درجة , وذاك عبد قد ولى الله استعماله , فهو في قبضته يتقلب , به ينطق , وبه يسمع , وبه يبصر , وبه يبطش , وبه يعقل , شهره في أرضه , وجعله إمام خلقه و وصاحب لواء الأولياء , وأمان أهل الأرض , ومنظر أهل السماء , وريحانة الجنان , وخاصة الله , وموضع نظره , ومعدن سره , وسوطه في أرضه , يؤدب به خلقه , ويحيي القلوب الميتة برؤيته , ويرد الخلق إلى طريقه , وينعش به حقوقه , مفتاح الهدى , وسراج الأرض , وأمين صحيفة الأولياء , و قائدهم , والقائم بالثناء على ربه , بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! , يباهي به الرسول في ذلك الموقف , وينوه الله باسمه في ذلك المقام , ويقر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم! , قد أخذ الله بقلبه أيام الدنيا , ونحله حكمته العليا , وأهدى إليه توحيده , ونزه طريقه عن رؤية النفس , وظل الهوى , وأئتمنه على صحيفة الأولياء , وعرّفه مقاماتهم , وأطلعه على منازلهم. فهو سيد النجباء , وصالح الحكماء , وشفاء الأدواء , وإمام الأطباء. كلامه قيد القلوب , ورؤيته شفاء النفوس , وإقباله قهر الأهواء , وقربه طهر الأدناس , فهو ربيع يزهر نوره أبداً , وخريف يجنى ثماره دأبا , وكهف يلجأ إليه , ومعدن يؤمل ما لديه , وفصل بين الحق والباطل. وهو الصديق والفاروق والولي والعارف والمحدّث. هو واحد الله في أرضه).
وأما ما قاله المتأخرون فهو أظهر وأصرح , فيقول داود القيصري:
¥