صورة فلان. وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به في النوم , لكن بين النوم والكشف فرق , وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم ولا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة , بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة أنها متجلية في صورة من صور الآدميين , فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم , لما أعطاك الكشف أن محمدا صلى الله عليه وسلم متصور بتلك الصورة , فلا يجوز ذلك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل , ثم إياك أن تتوهم شيئا في قولي من مذهب التناسخ , حاشا لله وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك مرادي , بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة يتجلى في هذه الصورة , وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملهم ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم , فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم).
وهذا ما قاله الدكتور أبو العلاء العفيفي معلقا على الفصّ السابع والعشرين (فصّ حكمة فردية في كلمة محمدية) من فصوص ابن عربي , فقال:
(شاع من أوائل عهد الإسلام القول بأزلية محمد عليه السلام , أو بعبارة أدق بأزلية (النور المحمدي). وهو قول ظهر بين الشيعة أولاً ولم يلبث أهل السنة أن أخذوا به , واستند الكل في دعواهم إلى أحاديث يظهر أن أكثرها موضوع. من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول الناس في الخلق) ومنها: (أول ما خلق الله نوري) , ومنها: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) وغير ذلك من الأحاديث التي استنتجوا منها أنه كان لمحمد عليه السلام وجود قبل وجود الخلق , وقبل وجوده الزماني في صورة النبي المرسل , وأن هذا الوجود قديم غير حادث , وعبروا عنه بالنور المحمدي. وقد أفاضت الشيعة في وصف هذا النور المحمدي , فقالوا أنه ينتقل في الزمان من جيل إلى جيل , وأنه هو الذي ظهر بصورة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء , ثم ظهر أخيرا بصورة خاتم النبيين محمد عليه السلام. وبهذا أرجعو جميع الأنبياء من آدم إلى محمد , وكذلك ورثة محمد إلى أصل واحد. وهو قول نجد له صدى في الغنوصية المسيحية. يقول الأب كليمنت الإسكندري: (ليس في الوجود إلا نبي واحد وهو الإنسان الذي خلقه الله على صورته , والذي يحل فيه روح القدس , والذي يظهر منذ الأزل في كل مكان وزمان بصورة جديدة).
نجد لكل هذا الكلام نظيرا في كتب ابن عربي فيما يسميه الكلمة المحمدية أو الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي. فهو لا يقصد بالكلمة المحمدية في هذا الفص محمداً الرسول , وإنما يقصد الحقيقة المحمدية التي يعتبرها أكمل مجلى خلقي ظهر فيه الحق , بل يعتبره الإنسان الكامل والخليفة الكامل بأخص معانيه. وإذا كان كل واحد من الموجودات مجلى خاص لبعض الأسماء الإلهية التي هي أرباب له , فإن محمدا قد انفرد بانه مجلى للاسم الجامع لجميع تلك الأسماء , وهو الاسم الأعظم الذي هو (الله). ولهذا كانت له مرتبة الجمعية المطلقة , ومرتبة التعين الأول والذي تعينت به الذات الأحدية , إذ ليس فوقه إلا هذه الذات المنزهة في نفسها عن كل تعين وكل صفة واسم ورسم.
ولهذه الحقيقة المحمدية التي هي أول التعينات – وإن شئت فقل أول المخلوقات – وظائف أخرى ينسبها إليها ابن عربي. فهي من ناحية صلتها بالعالم مبدأ خلق العالم , إذ هي النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء. أو هي العقل الإلهي الذي تجلى الحق فيه لنفسه في حالة الأحدية المطلقة , فكان هذا التجلي بمثابة أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود. فلما انكشفت له حقيقة ذاته وكمالاتها , وما فيها من أعيان الممكنات التي لا تحصى , أحب إظهار كمالاته في صور تكون له بمثابة المرايا التي يرى فيها نفسه , فكانت أعيان الممكنات الخارجية تلك المرايا.
¥