(يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا).
وقال النفزي الرندي:
(في قلوب الأحرار قبور الأسرار , والسر أمانة الله تعالى عند العبد , فافشى بالتعبير عنه خيانة , والله تعالى لا يحب الخائنين , وأيضا فإن الأمور المشهودة لا يستعمل فيها إلا الإشارة والإيماء , واستعمال العبارات فيها إفصاح بها وإشهار لها , وفي ذلك ابتذالها وإذاعتها , ثم إن العبارة عنها لا تزيدها إلا غموضا وانغلاقا , لأن الأمور الذوقية يستحيل إدراك حقائقها بالعبارات النطقية , فيؤدي ذلك إلى الإنكار والقدح في علوم السادة الأخيار.
قال أبو علي الروذباري رضي الله تعالى عنه: علمنا هذا إشارة , فإذا صار عبارة خفي).
وأما لسان الدين بن الخطيب فقال:
(حملة علم النبوة هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل , قالوا: وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه , ولا إذاعته ولا ادعاؤه , ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه وينسبون في ذلك إلى خواص النبوة وخلفائها كثيرا كقوله:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا) ز
وكان كبار المتصوفة يعملون بهذا المبدأ , ولم يكونوا يظهرون للناس علومهم وأفكارهم كما روى الكلاباذي عن الجنيد أنه قال للشبلي:
(نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا , ثم خبأناه في السراديب , فجئت أنت , فأظهرته على رؤوس الملأ.
فقال: أنا أقول وأنا أسمع , فهل في الجارين غيري).
ونقل الشعراني كذلك عن الجنيد أنه (كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس منهم , وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور , وكان إذا تكلم في علوم القوم أغلق باب داره , وجعل مفتاحه تحت وركه).
وأيضا روى عن الشاذلي أنه كان يقول:
(امتنعت عني الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم رأيته , فقلت: يا رسول الله , ماذ نبي؟ فقال: إنك لست بأهل لرؤيتنا لأنك تطلع الناس على أسرارنا).
والصوفية يكتمون آراءهم ومعتقداتهم عن غيرهم , ويوصون مريديهم في كتبهم ومؤلفاتهم التي كتبت للخاصة وخاصة الخاصة , فالصوفي الشهير عبد السلام الفيتوري يكتب في كتابه (الوصية الكبرى):
(إخواني , وسنذكر لكم كلاما في المغيبات لكن يجب الإمساك عنها إلا لأهله الذين يكتمونه , ولا ينبغي إظهاره للسفهاء الذين يلحقون به إلى الأمراء والجبابرة وأهل الدنيا).
وهناك نص مهم جدا ذكره الشعراني يقطع في هذا الموضوع فيقول:
وكان بعض العارفين يقول
(نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا , وكذلك لا يجوز لأحد أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به , فمن نقله إلى من لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه جهنم الإنكار , وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رؤوس الأشهاد وقالوا:
من باح بالسرّ استحق القتل).
وقد ذكر الدباغ حكايات كثيرة عن الذين لم يكتموا السرّ فابتلاهم الله ببلايا عديدة , من القتل والصلب والحرق والعمى وغير ذلك.
وكان منهم الحلاج , لأنه لم يقتل إلا لإفشاء سرّه.
وكما يروون أن الخضر عبر على الحلاج وهو مصلوب , فقال له الحلاج:
(هذا جزاء أولياء الله؟
فقال له الخضر: نحن كتمنا فسلمنا , وأنت بحت فمتّ).
وكما رووا عن أبي بكر الشبلي أنه قال:
(كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت).
وننقل أخيرا أن أحمد بن زروق , وابن عجيبة ذكرا عن الجنيد أنه كان يجيب عن المسألة الواحدة بجوابين مختلفين , فكان يجيب هذا بخلاف ما يجيب ذاك.
هذا عين ما رواه الشيعة على محمد الباقر كما ذكر الكليني عن زرارة بن أعين أنه قال:
(سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني , ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني. ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي , فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله , رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟
فقال: يا زرارة , إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم , ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا , ولكان أقل لبقائنا وبقائكم.
¥