(وأرتحل عن القلوب حرمة الشريعة , فعدّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة , ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام , ودانوا بترك الاحترام , وطرح الاحتشام , واستخفوا بأداء العبادات , واستهانوا بالصوم والصلاة , وركضوا في ميدان الغفلات , وركنوا إلى إتباع الشهوات , وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات , والإرتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان.
ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال , حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق و الأحوال , وادعوا أنهم تحرروا من رقّ الأغلال , وتحققوا بحقائق الوصال , وانهم تجري عليهم أحكامه وهم محو , وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم , وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية , واختطفوا عنهم بالكلية , وزالت عنهم أحكام البشرية , وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية , والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا , والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا , بل صرفوا.
ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوّحت ببعضه من هذه القصة , وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار , غيرة على هذه الطريقة أن يذكر أهلها بسوء أو يجد مخالف لثلبهم مساغا , إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة).
كما أقرّ بإباحتهم للمحظورات , الطوسي في كتابه:
(زعمت الفرقة الضالة , في الحظر والإباحة , أن الأشياء في الأصل مباحة , وإنما وقع الحظر للتعدي , فإذا لم يقع التعدّي تكون الأشياء على أصلها من الإباحة , وتأولوا قول الله عز وجل: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا0 عِنَبًا وَقَضْبًا0 زَيْتُونًا وَنَخْلًا 0حَدَائِقَ غُلْبًا0 وَفَاكِهَةً وَأَبًّا 0 مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
فقالوا: هذا على الجملة غير مفصل , فأدّاهم ذلك بجهلهم , إلى أن طمعت نفوسهم بأن المحظور الممنوع منه المسلمون: مباح لهم , إذا لم يتعدّوا في تناوله.
وإنما غلطوا في ذلك بدقيقة خفيت عليهم , من جهلهم بالأصول , وقلة حظهم من علم الشريعة , ومتابعتهم شهوات النفس في ذلك ... فظنت هذه الطائفة الضالة بالإباحة , لأن ذلك كان منهم على حال , جاز لهم ترك الحدود , أو أن يجاوزوا حد متابعة الأمر والنهي , فوقعوا من جهلهم في التيه , وتاهوا , وطلبوا ما مالت إليه نفوسهم: من اتباع الشهوات , وتناول المحظورات , تأويلا , وحيلا , وكذبا , وتمويها).
وذكرهم السهروردي بقوله:
(فقوم من المفتونين سمّوا أنفسهم ملامتية , ولبسوا لبسة الصوفية , لينتسبوا بها إلى الصوفية , وما هم من الصوفية بشيء , بل هم في غرور وغلط , يتسترون بلبسة الصوفية توقيتا تارة , ودعوى أخرى , وينتهجون مناهج أهل الإباحة , ويزعمون أن ضمائرهم خلصت إلى الله تعالى , ويقولون: هذا هو الظفر بالمراد , والإرتسام بمراسم الشريعة رتبة العوام , والقاصرين الأفهام المنحصرين في مضيق الاقتداء تقليدا , وهذا هو عين الإلحاد والزندقة والإبعاد , فكل حقيقة ردّتها الشريعة فهي زندقة , وجهل هؤلاء المغرورون أن الشريعة حق العبودية , والحقيقة هي حقيقة العبودية , ومن صار من أهل الحقيقة تقيد بحقوق العبودية وصار مطالبا بأمور وزيادات لا يطالب بها من لم يصل إلى ذلك , لا أنه يخلع عن عنقه ربقة التكليف , ويخامر باطنه الزيغ والتحريف .... ومن جملة أولئك قوم يقولون بالحلول ويزعمون أن الله تعالى يحل فيهم ويحل في أجسام يصطفيها , ويسبق لأفهامهم معنى من قول النصارى في اللاهوت والناسوت.
ومنهم من يستبيح النظر إلى المستحسنات إشارة إلى هذا الوهم).
وهؤلاء الذين ذكرهم ابن الجوزي بقوله:
(أعلم أن أكثر الصوفية المتصوفة قد سدوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب لبعدهم عن مصاحبتهن وامتناعهم عن مخالطتهن , واشتغلوا بالتعبد عن النكاح , واتفقت صحبة الأحداث لهم على وجه الإرادة وقصد الزهادة , فأمالهم إبليس إليهم , واعلم أن المتصوفة في صحبة الأحداث على سبعة أقسام:
القسم الأول: أخبث القوم وهم أناس تشبهوا بالصوفية ويقولون بالحلول.
¥