وأحد كبار القوم و (شهيد التصوف الإمام الأجل نجم الملة والدين قطب الإسلام والمسلمين , برهان السنة , محيي الحق نجم الدين الكبري) يخبر عن فسقه وفجوره بأسلوب صوفي: فيقول:
(عشقت واحدا ببلاد المغرب فسلطت عليه الهمة فأخذته وربطته ومنعته عن سواي , إلا أنه كان عليه رقباء , فسكت عن صريح المقال , وجعل يكلمني بلسان الحال , فأهمه وأكمله كذلك فيفهمه , وانتهى الأمر إلى أن صرت أنا هو , وهو أنا , ووقع العشق إلى محض صفاء الروح , فجاءتني روحه سحرا تمرّغ وجهها في التراب وتقول: أيها الشيخ الأمان , الأمان , قتلتني أدركني , فقلت: ماذا تريد؟
قالت: أريد أن تدعني حتى أقبل قدمك , فأذنت لها , ففعلت ورفعت وجهها , فقبلتها حتى استراحت واطمأنت إلى صدري).
وما دمنا تطرقنا إلى هذا الموضوع فإننا نقول: إن جماعة من الصوفية ولو أنهم تظاهروا بالصلاح والتقوى لم يستطيعوا أن يخفوا ويكتموا عشقهم وفسقهم , وشهدوا عليهم بعدم مبالاة الشرع وأحكامه , والتطرق إلى المنكرات والمحظورات.
فهذا هو الشيخ الأكبر للصوفية محيي الدين بن عربي يرفع الستار عن شخصه وكنهه , مثلما شهد تلميذه نجم الدين الكبري على نفسه , فيقول شارحا لديوانه (ترجمان الأشواق) الذي فضحه هو وعشقه ببنت أحد مشائخ مكة , وتشبيبه وغزله فيها , وقد كثر الكلام والغمز واللمز فيه (وأحدث هذا الشعر دويا وأقاويل حوله مما جعل بدل الحبشي وإسماعيل بن سودقين يطلبان إليه شرح هذا الديوان).
فأراد أن يغطي ما قاله فيها من الغزل الركيك المتندح عشقا وحبا وجذبا وشوقا إلى تلك الحسناء المكية بغطاء صوفي بدهاء ومكر , فما استطاع إلا إظهار ما كان خافيا من قبل أكثر بكثير.
فانظره ماذا يقول في مقدمة ذخائره , والعبارة ناطقة بصوت رفيع لا بصوت خافت , بما هو مكنون بين جنباتها وتراكيبها:
(فإني لما نزلت مكة سنة خمسمائة وثمان وتسعين ألفيت بها جماعة من الفضلاء , وعصابة من الأكابر والأدباء والصلحاء بين رجال ونساء , ولم أر فيهم مع فضلهم مشغولا بنفسه , مشغوفا فيما بين يومه وأمسه , مثل الشيخ العالم الإمام , بمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام , نزيل مكة البلد الأمين مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني رحمه الله ... وكان لهذا الشيخ رضي الله عنه بنت عذراء , طفيلة هيفاء , تقيد النظر , وتزين المحاضر , وتحير المناظر , تسمى بالنظام , تلقب بعين الشمس وإليها من العابدات العالمات السابحات الزاهدات شيخة الحرمين , وتربية البلد الأمين الأعظم بلامين , ساحرة الطرف , عراقية الظرف , إن أسهبت أثعبت , وإن أوجزت أعجزت , وإن أفصحت أوضحت إن نطقت خرس قس بن ساعدة , وإن كرمت خنس معن بن زائدة , وإن وفت قصر السموأل خطاه , وأغرى ورأى بظهر الغرر وامتطاه , ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض , السيئة الأغراض , لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن , وفي خلقها الذي هو روضة المزن , شمس بين العلماء , بستان بين الأدباء , حقه مختومة , واسطة عقد منظومة , يتيمة دهرها , كريمة عصرها , سابغة الكرم , عالية الهمم , سيدة والديها , شريفة ناديها , مسكها جياد وبيتها من العين السواد ومن الصدر الفؤاد أشرقت بها تهامة , وفتح الروض لمجاورتها أكمامه , فنعمت أعراف المعارف , بما تحمله من الرقائق واللطائف , علمها عملها , عليها مسحة ملك وهمة ملك , فراعينا في صحبتها كريم ذاتها مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد , فقلدناها من نظمنا فيها بعض خاطر الاشتياق , من تلك الذخائر والأعلاق , فأعربت عن نفس تواقة , ونبهت على ما عندنا من العلاقة , اهتماما بالأمر القديم , و إيثارا لمجلسها الكريم , فكل اسم أذكره في هذا الجزء فمنها أكني , وكل دار أندبها فدارها أعني).
ولم تكن واحدة هذه التي علق بها قلب الشيخ , وهام وراءها , بل كانت هناك أخرى أيضا , وفي بيت الله الحرام وجنب الكعبة , انظر ماذا يقول:
(كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي , وهزّني حال كنت أعرفه , فخرجت من البلاط من أجل الناس وطفت على الرمل , فحضرتني أبيات فأنشدتها أسمع بها نفسي ومن يليني – لو كان هناك أحد – وهي قوله:
ليت شعري هل دروا أيّ قلب ملكوا
وفؤادي لو درى أيّ شعب سلكوا
أتراهم سلموا أم تراهم هلكوا
¥