تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

النوع الثاني: مرادٌ لغيره – لا لنفسه – مكروه من حيثُ نفسِه وذاته، مرادٌ من حيث إيصاله إلى المراد المحبوب لنفسه، فاجتمع في هذا المراد حب الله وإرادته وبغضه وكراهيته، ولا منافاة بينهما لاختلاف متعلقهما، وهذا الذي سميناه مكروهاً يوصل إلى محبوب، فهو مكروه بالنظر إلي نفسه، وهو محبوب بالنظر إلى نتيجته، فاختلف متعلق الكُره ومتعلق الحب، إن قيل: هل لهذا مثال بيناً في الحسيات؟ نقول: الأمثلة كثيرة، فمثلاً: الدواء – ونسأل الله أن يعافينا من كل داء وبلاء – الدواء المر هذا مراد لغيره مكروه لنفسه لأن مثل هذا الدواء تنزعج بشربه لمرارته ولما يسببه لك من ضيق فهذا شيء مكروه ولذلك تراه لا يشربه إلا عند الحاجة، فتشربه لأنك تعلم أنه يوصل إلى محبوب وهو الشفاء فأنت لم ترده لنفسه بل لما يوصل إليه فاجتمع الأمران حب وبغض، إرادة وكراهية لاختلاف متعلقهما فمتعلق الحب غاية الدواء ونتيجة ولتعلق الكراهية للدواء نفسه وهكذا قدر الله فيما يبغضه ويكرهه ويوصل إلى محبوب.

وقد قرر أئمتنا الكرام حِكماً كثيرة في تقدير الله وإرادته لما يشاؤه مما يكرهه ويبغضه، ولنأخذ مثالاً على ذلك في نوع من أنواع الشرور المكروهة ما يترتب عنها من خصال محمودة محبوبة، هذا الشر هو رأس الشر ومنبعه هو: الخسيس إبليس فهل في خلق هذا المخلوق مصلحة ومحمدة وهل يترتب على خلقه حُسن ومصالح؟

نعم يترتب على خلقه مصالح كثيرة ومحامد وفيره ومحبوبات جليلة مع أنه مكروه في نفسه فهذا كالعلاج والدواء – وليس الشرب – بل العلاج الذي ستُبتر فيه أربعة أطراف المتعالج اليدين من الكفين والرجلين من الفخذين، فيرضى بقطع هذه الأعضاء ليحمي نفسه من السرطان الذي سينتشر في جميع جسمه ويقضي عليه ويُميته فهل هو رضي بقطع الأعضاء لأنه يحب ذلك؟ لا، بل لأن قطعها يؤدي ويوصل إلى محبوب وهو البقاء حياً، فلذلك رضي بهذا الشر.

من هذه الخيرات التي تترتب على إبليس، وسأذكر خمساً والباقي يمكن استنباطه، وقد ذكرته في درس المعمورة الحكم من تقدير الذنوب حِكم بالنسبة للذنب وبالنسبة للمزين (إبليس)، بالنسبة للنفس، بالنسبة للرب وهذه تصل إلى حكم:

1) ظهور قدرة الرب على خلق المتضادات، المتناقضات، المتقابلات، المتعارضات المتفاوتات، هذا في الحقيقة أمر عظيم، والله عظيم عظيم وهو على كل شيء قدير ولابد من هذا الوصف من مثال فخلق ذكراً و أنثى، وخلق ليلاً ونهاراً، وخلق خيراً و شراً، وخلق حياة و موتاً، وخلق داءً ودواءً، خلق جبريل وخلق إبليس، وجبريل أطهر المخلوقات وأفضلها وأعظمها بالنسبة للملائكة وذاته لا تقبل شراً وفي المقابل خلق إبليس وهو على عكس جبريل تماماً لا يقبل الخير أبداً، بل هو شرير، فيه شهوة وشبهة منبع الشهوات وأم الشبهات، فكل شهوة عنده وكل شبهة عنده، فالخمر شهوة (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر)، والاعتراض على الله شبهة وأول من اعترض على الله هو (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)، فإذن لابد من إظهار هذا الأمر أن الله قدير على خلق المتضادات، فلو خلق الناس كلهم مؤمنين لقال الناس: ليس بمقدور الله أن يقدر شيئاً آخر، ولو خلق الله نهاراً بلا ليل لقال الناس: هذه طبيعة، ولو خلق الله فصلاً واحداً وهو الشتاء لقال الناس: هذا هو الدهر، الحاصل أن هذه المتضادات تظهر قدرة الله جل وعلا وهي مقصودة محبوبة محمودة.

2) ظهور آثار أسماء الله القهرية، فهو سبحانه وتعالى المنتقم، المذل، الخافض، (شديد العقاب)، (أخذه أليم شديد)، نقول: العقاب والانتقام والبطش والإذلال والخفض يكون لأوليائه وأحبائه أم لأعدائه؟ لأعدائه للشيطان وذريته وأتباعه، فلما خلق الله الشيطان ووجد لهذا الشيطان أتباع من أنس وجان ظهرت آثار أسماء الله القهرية فحصل غضب الله وحصل مقته، وحصلت عقوبته، وحصل بطشه وحصل انتقامه، وحصل إذلاله لهؤلاء، وحصل خفضه لهم في الدنيا والآخرة، وأذلهم وعاقبهم ونكد حياتهم وأدخلهم جهنم، فهذه الآثار متعلقة بصفات للعزيز القهار فلابد من أن تأخذ متعلقها وآثارها وإلا تتعطل تلك الصفات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير