(فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: ((إنَّكُمْ إذاً مِّثْلُهُمْ)) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية ..
وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى (1) وروى جويبر عن الضحاك قال: (دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة) (2). وقال القرطبي أيضاً رحمه الله تعالى عند قول الله تعالى: ((وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، ومضى في النساء، وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال: ((وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا)) الآية، ثم بين في سورة النساء، وهي مدنية. عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال: ((وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ)) الآية، فألحق من جالسهم بهم.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم: أحمد بن حنبل والأوزاعي، وابن المبارك، فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع، قالوا: ينهى عن مجالستهم فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم) (3).
وقال الشوكانى رحمه الله تعالى:
(وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب: دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية كما يقع كثيراً من أسراء التقليد…) (4).
3 - ومنها قوله تعالى في سورة هود/ 113:
((ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ)).
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
(الصحيح في معنى هذه الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصى من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم - أي طرفة بن العبد -: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في: آل عمران، والمائدة، وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار، والله أعلم) (5).
4 - ومنها قول الله تعالى:
((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم)) [المجادلة:22].
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
(استدل مالك رحمه الله تعالى من هذه الآية على معاداة القدرية، وترك مجالستهم، قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله لقوله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ)) قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان) (6).
ثانياً - ومن السنة النبوية:
وهي كثيرة يترجم لها المحدثون في عدة أبواب:
أ - ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى: باب الهجرة وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث. وباب ما يجوز من الهجران لمن عصى. وباب من لم يسلم على من اقترف ذنباً، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي؟ وقال عبدالله بن عمرو: لا تسلموا على شربة الخمر (7).
ب - وفي سنن أبي داود رحمه الله تعالى: باب مجانبة أهل الأهواء أو بغضهم، وباب ترك السلام على أهل الأهواء (8).
ج -وفي رياض الصالحين للنووي رحمه الله تعالى: باب تحريم الهجر بين المسلمين إلا لبدعة في المهجور أو تظاهر بالفسق (9).
د- وفي شرح السنة للبغوي رحمه الله تعالى: باب مجانبة أهل الأهواء (10)
هـ- وفي الترغيب والترهيب للمنذري رحمة الله تعالى: الترهيب من سب الأشرار وأهل البدع لأن المرء مع من أحب (11).
¥