وقال البغوي - رحمه الله تعالى - بعد حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه (1) -:"وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا من الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون، وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم".
وقال الغزالي رحمه الله تعالى:"طرق السلف اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي، وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظَّلَمة والمبتدعة، وكل من عصى معصية متعدية إلى غيره".
وقال ابن عبد البر (2) - رحمه الله تعالى -:"أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك جاز، ورُب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية".
وقال أيضاً - في الاستدلال من حديث كعب بن مالك وهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- له هو والمسلمون (3) -:"وهذا أصل عند العلماء في مجانبة مَن ابتدع وهجرته وقطع الكلام عنه، وقد رأى ابن مسعود - رضي الله عنه - رجلاً يضحك في جنازة فقال: والله لا أكلمك أبداً".
المبحث السابع
إعمال الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم لهذه القاعدة في حياتهم العملية في مواجهة المبتدعة:
لما ذَرَّ قرن الفتنة بكسر قفلها، وقتل أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - وبدأ المندسون يبدون ما كانوا يضمرون من كيد للإسلام والمسلمين، أخذوا ينفخون في كير الفتنة، وينشرون الهوى وينفثون البدعة، بدع: القدر، والخوارج والرفض، والإرجاء، وهكذا تتوالى، كلما بعد الناس من عهد النبوة وأنوارها، حتى داخلت البدع والمحدثات شعائر التعبد وصارت مفرداتها كحَب منثور في كف كل لاقط.
لما كان الأمر كذلك واجه العلماء - رضي الله عنهم - فمن بعدهم هذه المحدثات العقدية والعملية، بإيمان مستكمل، وعلم جم، وبصيرة نافذة فأظهروا من أنوار الشريعة الماحية لظلمة الضلال - ما اكتسح هذه الأهواء، وقضى على نابتها، وأعملوا فيهم العقوبات الشرعية، حتى قلموهم، وأجهزوا على محدثاتهم في الدين، وكان الزجر بالهجر مما وظفوه - رضي الله عنهم - في حياتهم العملية ضد البدعة ومبتدعيها تأسيساً على قاعدة (الولاء والبراء) والحب لله والبغض لله.
ومازال هذا النهج السوي شارعاً في حياة الأمة يعتمدونه في مواجهة المبتدعة، مدوناً بأسانيده في كتب السنة، وهذه جملة من المرويات في هذه الوظيفة الشرعية بخصوصها عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم:
فهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما أخبره يحيى بن يعمر عن القدرية قال: "إذا رجعت إليهم فقل لهم: ابن عمر يقول لكم: إنه منكم بريء، وأنتم منه براء" رواه مسلم وغيره (4).
وعن مجاهد قال: قيل لابن عمر: إن نجدة يقول كذا وكذا؛ فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء (5).
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول:"إياكم وما يحدث الناس من البدع؛ فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فريضة في الصلاة، والصيام، والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم - عز وجل - فمَن أدرك ذلك الزمان فليهرب.
قيل يا أبا عبد الرحمن: فإلى أين؟!، قال: إلى لا أين، قال: يهرب بقلبه ودينه، لا يجالس أحداً من أهل البدع" (6).
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال:"ما كان شرك قط إلا كان بُدُوّه تكذيب بالقدر ولا أشركت أمة قط إلا كان بدوه تكذيب بالقدر، وإنكم ستبلون بهم - أيتها الأمة! - فإن لقيتموهم فلا تمكّنوهم؛ فيدخلوا عليكم الشبهات" (7).
وعن الفضيل بن عياض قال:"من جلس مع صاحب بدعة فاحذره، ومن جلس مع صاحب البدعة لم يُعطَ الحكمة، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد، آكل مع اليهودي والنصراني أحب إليَّ من أن آكل مع صاحب البدعة" (8).
وعن الفضيل بن عياض: من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش الإسلام، واحذروا الدخول على صاحب البدع فإنهم يصدون عن الحق (9).
وعنه أيضاً: في النهي عن مجالستهم (10).
¥