والحقيقة أن هذا الوجه: صوري لا حقيقي إذ البدع مشكلة المأخذ يلحق بها من الإشاعة والتعصب ما يجعلها بينة، والله أعلم (5).
ومن جهة اجتهاده فيها أو كونه مقلداً
فالمجتهد مفترع للبدعة، فالزيغ أمكن في قلبه من المقلد، وإن كان كل منهما موزوراً لكن أثم من سن سنة سيئة أعظم وزراً، والله أعلم (6).
ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه
أما الإصرار عليها فيجعلها من باب: الدعوة إليها فيكون داعية معلناً لها، وأما عدم الإصرار فهو من باب كونها: فلتة، وزلة عالم، إذا كانت منه ثم لم يعاودها (7).
ويختلف باختلاف حال المبتدع وما فيه من خير وشر: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة و الجماعة ... " (8).
وفرق بين عالم تشربت نفسه بالبدع، لكنه لم يختلط بعلماء أهل السنة ولم يتلق عنهم، وبين عالم تلقى عن المبتدعة فنالت منه منالاً، ثم خالط أهل السنة وعلماءهم وجاورهم مدة بمثلها يحصل برد اليقين بل يكون عاشرهم عشرات السنين، ثم هو يبقى على مشاربه البدعية يعملها، ويدعو إليها، ويصر عليها، فهذا قامت عليه الحجة أكثر، واستبانت له المحجة فما أبصر. فهو من أعظم خلق الله فجوراً، وغيضاً على أهل السنة.
فالأول في تأليف قلبه وتودده للرجوع إلى السنة مجال، أما الثاني: فلا والله، بل يتعين هجره، ومنابذته وإبعاده، وإنزال العقوبات الشرعية للمبتدعة عليه، وأن يُهجر ميتاً كما هُجر حياً فلا يصلي أهل الخير عليه، ولا يشيعون جنازته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حق بعض العصاة المظهرين لفجورهم:
"وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة.
وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً، كما هجروه حياً، إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبى - صلى الله عليه وسلم - على غير واحد من أهل الجرائم، وكما قيل لسمرة ابن جندب: إن ابنك مات البارحة، فقال: لو مات لم أصل عليه، يعني لأنه أعان على قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على قاتل نفسه. وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير ... " (9).
وفرق في حال المهجور: بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه، فإن القوي يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم- (10).
وكذلك بالنسبة للأماكن: ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك.
وهذا على ما أفتى به الأئمة أحمد وغيره بناء على هذا الأصل: رعاية المصالح الشرعية. (11)
"ويختلف باختلاف الهاجرين أنفسهم في قوتهم وضعفهم وقلتهم و كثرتهم" (12).
فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر ولا يحصل المقصود الشرعي، لم يشرع الهجر وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر.
وهذا كحال المشروع مع العدو "القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح" (13).
ومن أهم المهمات هنا: إذا كانت الواجبات لدى أهل السنة مثل: التعليم، و الجهاد، و الطب، والهندسة، ونحوها متعذر إقامتها إلا بواسطتهم، فإنه يعمل على تحصيل مصلحة الجهاد، ومصلحة التعليم وهكذا، مع الحذر من بدعته، واتقاء الفتنة به وبها ما أمكن، وبقدر الضرورة، فإذا زالت عاد أهل السنة إلى الأصل في الهجر، وأبعد لمبتدع.
¥