ولذلك فإن المدلول الصحيح لكلمة "العلمانية" هو: فصل الدين عن الدولة .. أو هو إقامة الحياة على غير الدين، سواء بالنسبة للأمة أو للفرد، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود، فبعضها تسمح به، وتسمى العلمانية المعتدلة، فهي ـ بزعمهم ـ لا دينية ولكنها غير معادية للدين، وذلك في مقابل المجتمعات الأخرى المضادة للدين .. وبدهي أنه لا فرق في الإسلام بين المسميين، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان. ولا واسطة بينهما.
عليه فالعلمانية دولة لا تقوم على الدين، بل هي دولة لا دينية، تعزل الدين عن التأثير في الدنيا، وتعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه.
والعلمانية دولة لا تقبل الدين إلا إذا كان علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه بحيث لا يكون لهذه العلاقة أي تأثير في أقواله وأفعاله وشؤون حياته.
ولا شك أن المفهوم الغربي العلماني للدين، على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا علاقة لها بواقع الحياة .. جاء من مفهوم كنسي محرف، شعاره "أد ما لقيصر لقصير، ما لله لله"، ومن واقع عانته النصرانية خلال قرونها الثلاثة الأولى، حين كانت مضطهدة مطاردة من قِبل الإمبراطورية الرومانية الوثنية، فلم تتمكن من تطبيق شريعتها، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية ـ اضطراراً ـ واعتبرت ذلك هو الدين وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفاً لا يمثل الدين السماوي المنزل. فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً، ولم تجد كبير العناء في فصل الدين عن الدولة، وتثبيت الدين على صورته الهزيلة التي آل إليها في الغرب ..
وإذا فالعلمانية، رد فعل خاطئ لدين محرف وأوضاع خاطئة كذلك، ونبات خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية .. فلا شك أنه لم يكن حتماً على مجتمع ابتلى بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينياً بل الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح ..
فإذا وجدنا مجتمعاً آخر يختلف في ظروفه عن المجتمع الذي تحدثنا عنه، ومع ذلك يصر على أن ينتهج اللادينية ويتصور أنها حتم وضرورة فماذا تحكم عليه؟ .. وكيف يكون الحكم أيضاً إذا كان المجتمع الآخر يملك الدين الصحيح .. فقط نثبت السؤال، ونترك ـ لا نقول لكل مسلم ـ بل لكل عاقل الإجابة عليه؟
أما نحن فنكرر هنا أنه لا يوجد دين جاء من عند الله هو عقيدة فقط، والدين الذي هو عقيدة فقط أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في هذه الأرض، هو دين جاهلي مزيف لم يتنزل من عند الله. 2
وقد لبست العلمانية رداءين:
أحدهما: يتظاهر بالحياد تجاه عقائد الدين وعباداته المحضة، وما أرادوا حصر الدين فيه واعتبروه من دائرة تخصصه، ويتظاهر بأنه لا يريد إلغاء الدين كلياً، إنما يريد حصره في مجالات تخصصه.
أما تدخله في شؤون الحياة الدنيا فهو تدخل يفسدها، ويعوّق مسيرتها وتقدّمها وارتقاءها.
ويزعم لابسو هذا الرداء – كذباً وافتراءً على الدين الحق – أن تعاليم الدين في شؤون الحياة غير صالحة، لأنها غير علمية ولا عقلية.
وثانيهما: يُعلن حربه وعداءه للدين كله، ويسعى بكل ما أوتي من حيلة وقوة لإلغائه إلغاءً كلياً، وجعل المادية ومفاهيم التطور الذاتي للكون، والإلحاد بالله عزّ وجلّ، والكفر بكل القيم الدينية، هي العقيدة السائدة في كل المجتمعات الإنسانية.
ويتخذ لابسو هذا الرداء كل وسائل المكر، والكيد، والقهر والإكراه، والتزييف الفكري للحقائق، وفرض القوانين، ومناهج السلوك، وبرامج التعليم الموجه، بغية تحقيق هذا الهدف.
ولا ريب أن العلمانية صاحبة الرداء الأول المتظاهر بالحياد تجاه الدين في المجال الذي أراد حصره فيه، إنما لبست رداءها هذا نفاقاً لأنصار الدين وأتباعه في الأرض، ونفاقها هذا سياسة مرحلية ذكية، تعتمد على أسلوب التدرج، حتى إذا تمكنت انتقلت إلى الإجهاز على الدين كله إجهازاً كلياً، ويومئذٍ ترتدي الرداء الثاني، وتعلن حربها للدين كله.
¥