والله عزوجل أخبرنا في كتابه أنه هو الخالق وحده لا شريك له , وأن كل ما سواه فهو مخلوق مربوب عاجز وضعيف , فليس في هذا الكون سوى خالق واحد , يقول الله عزوجل: (قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) , ويقول سبحانه: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) , فالله عزوجل هو الخالق وحده وكل ما سواه فهو محدث كائن بعد أن لم يكن , مخلوق مربوب لربه وخالقه جلت قدرته وتعالى شانه.
فأنت أيها الإنسان الضعيف مسبوق بالعدم , كنت بعد أن لم تكن , والله عزوجل يقول: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) , فينبغي للعبد أن يستحضر هذا المعنى , وأن يعظم الرب الخالق البارئ التعظيم اللائق بجلاله وعظمته , وأن لا يترفع الإنسان ويغتر ويتعالى عن عبادة الله تبارك وتعالى , ثم أيضا إذا عرف العبد أن ربه هو الخالق البارئ , ينبغي أن يثبت أن الله عزوجل لا يزال يتصف بهذه الصفة , فالله يخلق خلقا بعد خلق , فلا زال ربنا تبارك وتعالى يكون ويخلق ويوجد خلقا جديدا , والله عزوجل يقول: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) ويقول: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) ومعلوم أن التعبير بالفعل المضارع , أن الفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار , وإذا كان الله عزوجل يخلق ما يشاء فمعنى ذلك أنه يوجد خلقا لم يكن موجودا , فلا يزال الله تعالى كذلك.
ثم إن الله تبارك وتعالى لم يستفد اسم الخالق أو البارئ بعد أن خلق الخلق , ولم يستفد هذا الاسم بعد أن براهم , كما أنه لم يستفد اسم البديع بعد أن أبدع الكائنات , فالله عزوجل موصوف بجميع أوصاف الكمال قبل أن يخلق الخلق , فله الكمال المطلق , ولم يكن تبارك وتعالى معطلا عن أوصاف الكمالات في وقت من الأوقات , والله عزوجل يقول: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) , فالذي يخلق يكون كاملا , والله عزوجل له الكمال المطلق منذ الأزل , فالله تبارك وتعالى هو الخالق قبل أن يخلق الخلق.
ثم إن الله تبارك وتعالى إذا كان هو الخالق , فإن معنى ذلك أنه خلق كل شيء ومن ذلك أنه خلق هذا الإنسان وخلق أيضا عمل الإنسان , كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته) يقول الإمام البخاري معلقا عليه: فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة.
وإذا عرف العبد هذه الحقيقة , فإنه لا يقول كما يقول بعض أهل البدع والضلال بأن أحدا في هذا الكون لربما يخلق , أو أن العبد يخلق أفعاله , فالله خلقنا وخلق أفعالنا , كما قال عزوجل: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).
ثم إذا كان الله عزوجل هو الخلق , وكان ما سوى الله عزوجل هو المخلوق المربوب , فإن هذا يقتضي أن يعبد وحده لا شريك له , وأن يوحد دون أن يجعل له شريك من هؤلاء العاجزين المربوبين المخلوقين , كيف يجعل لله الخالق تبارك وتعالى شريكا من خلقه؟ , والله عزوجل يقول: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فهم ذاهبون عن الحق حيث جعلوا له من هؤلاء المخلوقين المربوبين شركاء , وقد أثبت الله عزوجل عجزهم وضعفهم عن خلق أضعف الأشياء فقال الله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وقد زعم بعض الملاحدة أنه يخلق , وحينما طولب بإثبات ذلك , أخذ قطعة من اللحم فشرحها , ثم جعل بين هذه التقاطيع والشرائح من اللحم , جعل بينها روثا , ثم جعل ذلك جميعا في علبة أو في كوز ثم أغلقه وأحكم إغلاقه , ثم أخذه بعد ثلاثة أيام وفتحه فإذا هو يعج بالدود , فزعم أنه هو الذي خلق ذلك , فقال له بعض من حضر على البديهة , هب أنك خلقته فكم عدد هذا الدود؟ فلم يدري ولم يستطع الإجابة , ثم سأله سؤالا آخر فقال كم منه الذكور والإناث؟ وهل تقوم أنت برزقه , فلم يستطع أن يجيب بشيء.
فالله عزوجل هو الذي خلق جميع الخلق وأحصاهم عددا ,وهو الذي يقوم برزقهم تبارك وتعالى , كما قال جل وعلا: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).
· ثم أيضا إذا عرف العبد أن ربه هو الخالق , فينبغي أن يتفكر في معنى عظيم , وهو أن هذا الخلق الذي أوجده الله عزوجل أنه لم يكن عبثا , وأن الله سبحانه لم يرد به لعبا أو لهوا تعالى ربنا وتقدس عن ذلك علوا كبيرا , كما قال الله عزوجل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) فالله ينكر عليهم هذا الظن الفاسد أنه خلقهم جل وعلا لا إلى حكمة وإنما خلقهم عبثا من غير قصد عظيم وحكمة كبرى , وقد أبان الله عزوجل هذه الحكمة العظيمة في الخلق فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) فمن تفكر في هذا المعنى هداه بإذن الله عزوجل إلى سلوك الطريق الذي ينبغي أن يسلكه , وهو المعنى الذي خلقه الله عزوجل لأجله , وهو العبودية لله جل جلاله.
أما الذي يشاهد هذه المخلوقات وهذه الأفلاك دون أن يوصله هذا النظر إلى هذا المعنى , فهذا نظر لا خير فيه ولا يورثه نفعا وإنما يكون حجة عليه.
أسأل الله عزوجل أن يبصرنا وإياكم في الدين , وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين , اللهم أصلح لنا شأننا كله دقه وجله , اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك , اللهم أصلح أحوال المسلمين , والحمدلله رب العالمين.
¥