وأخبر عن حمد أهل الجنة له وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده , كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده , فقال عن أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) , وقال: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) , وقال عن أهل النار: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) , وقال الحق تبارك وتعالى: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) , فشهد هؤلاء الكفار من أهل النار على أنفسهم بالكفر والظلم , وعلموا أنهم كانوا كاذبين في الدنيا مكذبين بآيات ربهم مشركين به جاحدين لإلاهيته مفترين عليه , وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم , وأخذهم ببعض حقه عليهم وأنه غير ظالم لهم , وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده , وإنما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه , لا كما تقوله الجبرية.
وتفصيل هذه الحكمة مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا للتعبير عنه , ولكن بالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل وكل مدح وحمد وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عزوجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها , وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس , فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناءا عليه , بل هو كما أثنى على نفسه , وفوق ما يثني به عليه خلقه , فله الحمد أولا وآخرا , حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه , كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده.
· حمد النعم والآلاء مشهود للخليقة برها وفاجرها , مؤمنها وكافرها , من جزيل مواهبه سبحانه وسعة عطاياه , وكريم أياديه , وجميل صنائعه , وحسن معاملته لعباده , وسعة رحمته لهم , وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرين , وكشف كربات المكروبين , وإغاثة الملهوفين , ورحمته للعالمين , وابتداءه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق , بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه , ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها , وصرفها بعد وقوعها , ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف , وتبليغه من ذلك إلى مالا تبلغه الآمال , وهدايته خاصته وعباده إلى سبيل دار السلام , ومدافعته عنهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام , وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم , وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم من الراشدين , وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه , وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم , وذكرهم قبل أن يذكروه , وأعطاهم قبل أن يسألوه , وتحبب إليهم بنعمه مع غناه , وفقّرهم إليه , ومع هذا كله فاتخذ لهم دارا وأعد لهم فيها من كل ما تشتهي الأنفس , وتلذ الأعين , وملأها من جميع الخيرات , وأودعها من النعيم والسرور والبهجة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها , ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها , ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصير جدا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم , وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرا , وإن أساءوا واستغفروه أن يغفر لهم , ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات , وذكرهم بآلائه , وتعّرف إليهم بأسمائه , وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانا , لا حاجة منه إليهم , ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم , لا بخلا منه عليهم , وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه , ونصحهم بأحسن النصائح , ووصاهم بأكمل الوصايا , وأمرهم بأشرف الخصال , ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال , وصرّف لهم الآيات , وضرب لهم الأمثال , ووسع لهم طرق العمل به ومعرفته , وفتح لهم أبواب الهداية , وعرفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه , وتبعدهم عن غضبه , ويخاطبهم بألطف الخطاب , ويسميهم بأحسن أسمائهم كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) , (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا
¥