تَعْبُدُونَ).
· الحمد من أوله إلى آخره مستحق لربنا جل جلاله , كما قال الله عزوجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) , فالألف واللام في الحمد تدل على الاستغراق , أي هو الذي له جميع المحامد بأسرها , ولا يكون ذلك لأحد إلا لله تبارك وتعالى , ولهذا فإننا لا نحصي ثناءا عليه كما أثنى على نفسه جل جلاله , فهو حميد في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله , وفي كل شأن من شؤونه , فله الحمد على كل حال , وفي كل زمان وفي كل مكان , وفي الشدة وفي الرخاء , في العسر واليسر , وفيما نحبه وفيما نكرهه , لأنه المستحق لذلك جميعا , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: (اللهم أنت الحمد أنت نور السماوات والأرض , ولك الحمد أن قيام السماوات والأرض , ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن , وأنت الحق ووعدك الحق) , وكان يصلي بأصحابه عليه الصلاة والسلام مرة فرفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده , فقال رجل وراءه (ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه) , فلما انصرف قال: من المتكلم؟ , قال رجل: أنا يا رسول الله , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولا.
وهذا يدل على عظمة الحمد , وقولنا بأن الحمد لله جميعا , يقول ابن القيم في بيان هذا المعنى: والحمد كله لله رب العالمين , فإنه المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه , فهو المحمود على طاعات العبد ومعاصيهم , وإيمانهم وكفرهم , وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين , وعلى خلق الرسل وأعدائهم , وهو المحمود على عدله في أعدائه , كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه , فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده , ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده , وكان في قول النبي صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع (ربنا ولك الحمد ملئ السماء وملئ الأرض وملئ ما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد) فله سبحانه الحمد , حمدا يملأ المخلوقات والفضاء الذي بين السماوات والأرض , ويملأ ما يقدر بعد ذلك مما يشاء الله أن يملأ بحمده , وذلك يحتمل أمرين , الأول: أن يملأ ما يخلقه الله مبدع السماوات والأرض والمعنى أن الحمد ملئ ما خلقته وملئ ما تخلقه بعد ذلك , الثاني: أن يكون المعنى ملئ ما شئت من شيء بعده يملؤه حمدك , أي يقدر مملوءا بحمدك وإن لم يكن موجودا , والمعنى الأول أقوى وأرجح.
ويقول ابن القيم في بيان قولنا " الحمد كله لله ": هذا له معنيان , أحدهما أنه محمود على كل شيء , وهو ما يحمد به رسله أنبياؤه وأتباعهم , فذلك من حمده تبارك وتعالى (يعني ما يحمدون به من الأوصاف الكاملة الله أولى به , بل هو المحمود في القصد الأول) وهذا كما أنه بكل شيء عليم , وقد علم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه , وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه وله الحمد , وقد آتى من الحمد ما شاء , وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه , فحمده أيضا داخل في حمده , فما من محمود يحمد على شيء دق أو جل إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية أيضا , وإذا قال (اللهم لك الحمد) فالمراد به أنت المستحق لكل حمد , ليس المراد به الحمد الخارجي فقط.
المعنى الثاني: أن يقال " لك الحمد كله " أي التام الكامل , هذا مختص بالله ليس لغيره فيه شركة , والتحقيق أن له الحمد بالمعنيين جميعا , فله عموم الحمد وكماله , وهذا من خصائصه سبحانه , فهو المحمود على كل حال.
يقول: وعلى كل شيء أكمل حمد وأعظمه , كما أن له الملك التام العام , فلا يملك كل شيء إلا هو , وليس الملك التام الكامل إلا له , وأتباع الرسل يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد , فإنهم يقولون إنه خالق كل شيء وربه ومليكه , لا يخرجوا عن خلقه وقدرته ومشيئته البتة , فله الملك كله.
· يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومعلوم أن كل ما يحمد، فإنما يحمد على ماله من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد، فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب.
¥