وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلي زيادة على مثله من الأغنياء حتى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته جبراً لقلبه وتقرباً بذلك إلى ربه وكان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله بل يقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيراً كان أو صغيراً رجلاً أو امرأة حراً أو عبداً عالماً أو عامياً حاضراً أو بادياً .. ولقد بالغ معي [القائل: الحافظ البزار] في حال إقامتي بحضرته في التواضع والإكرام حتى إنه لا يذكرني باسمي بل يلقبني بأحسن الألقاب" (1) كذلك كان يداعب الصغار ويلاطفهم وكان من تواضعه أنه إذا خرج مع بعض تلاميذه لقراءة الحديث "كان هو بنفسه يحمل الكتاب ولا يدع أحداً يحمله فلما قيل له في ذلك وأنهم يخافون من سوء الأدب فيقول: لو حملته على رأسي لكان ينبغي ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم؟ وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صدر المجالس فيعجب تلاميذه من تواضعه ورفعهم عليه في المجلس" (2) وكان هذا حاله مع غيره ممن يتعامل معه حتى كانت محبته في قلوب كل من رآه أو سمع به.
وأما أقواله: فهي عبارات رقراقة قالها فحفظت عنه وانتشرت وهي إما أن تكون تلخيصاً لفكرة أو دعوة لفضيلة أو تشجيعاً لعبادة أو توضيحاً لأمر وأحياناً تخرج منه تلقائياً أثناء جوابه لسؤال أو تعليقه على موقف معين وهي نتيجة لتبحره في العلوم وتمكنه منها وإن انتشار تلك العبارات دليل على إخلاصه؛ حيث وسائل نقل المعلومات محدودة في تلك الأزمان ولكنها انتشرت وعرفت عنه ولا يمكن لباحث جمعها كلها إلا بمشقة لتناثرها ... ولو جمعت لكانت في مجلدة ضخمة و"لابن تيمية كلام خاص يستميل العقول، وله عبارات أخاذة مؤثرة تعلم بالاستقراء أنها لابن تيمية فمن سبر كتبه وقرأ رسائله وتبحر في علومه حفظ له مصطلحات وجمل وكلمات كأنها من الأمثال عند الشعراء أو من الشواهد عند البلغاء حتى تصلح أن تكتب في براويز وأن تعلق من
جودتها ومن سطوعها" (1) ومن هذه العبارات:
(1) " المؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك لمحظور يصبر على المقدور" (2)
(2) " الذكر للقلب مثل الماء للسمك" (3)
(3) " إن في الدنيا جنة (4) من لم يدخلها (5) لا يدخل جنة الآخرة" (6)
(4) " المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه" (7)
(5) " ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري (8) أين رحت فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة" (9)
(6) "العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". (10)
(7) "النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كير الامتحان" (11)
(8) "الطاعة والعبادة هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته" (12)
(9) " ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر
(10) من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً" (1)
(11) " المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال" (2)
(12) " كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم" (3)
(13) " ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه" (4)
(14) " لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه" (5)
(15) "الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين" (6)
(16) "حصول العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم" (7)
(17) "لا ينال الهدى إلا بالعلم ولا ينال الرشاد إلا بالصبر" (8)
(18) "العبادة مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع" (9)
(19) "كل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل" (10)
(20) "من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية" (11)
(21) "لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته" (12)
(22) "من فارق الدليل ضل السبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول" (13)
المطلب السادس: توليه التدريس:
¥