الأنصار والخصوم كان منذ عصر الإمام ابن تيمية ولكنه لم يستمر طويلاً إذ إنه "بعد وفاته استمر بين الفريقين أمداً قصيراً ولكنه أخذ يضعف شيئاً فشيئاً وكثر المعتدلون وقل المغالون حتى هدأ التعصب له والتعصب عليه [إلا ما ندر مما لا حكم له] وتوارث الناس جميعاً علومه وتفهموه فقيهاً مستقل المدارك وباحثاً منقباً محيياً للسنة عاملاً على نصرة الدين، والتقى المختلفون على تقديره وحسن أثره في الإسلام، وعظيم قيامه على أمره" (5) وأنه مأجور في الحالين كغيره من أهل العلم المجتهدين. وفي نهاية المطاف لا يسع المسلم إلا أن يترحم على الفريقين المادحين للإمام ابن تيمية والقادحين له؛ لأنهم مسلمون وإن زلَّت أقدامهم عمداً أو سهواً فإن الدعاء لهم متحتم؛ لقوله تعالى حاكياً حال المسلمين بعضهم مع بعض: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) (6) والإمام ابن تيمية نفسه
قد جعل في حل كل من عاداه أو كفره أو سعى في قتله بقوله: " وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدَّى حدود الله فيَّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية فأنا لا أتعدَّى حدود الله فيه بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل " (1) وقوله:" من آذاني فهو في حل " (2) ثم بيَّن لمحبيه وذاكري فضله وجوب الإنصاف وألا تحملهم الغيرة على مجاوزة الإنصاف فقال:" فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه " (3).
فكيف يصح لمن أتى بعده ألا ينصف معهم؟! فالكل الآن الإمام ابن تيمية ومادحوه وقادحوه بين يدي الله جبار السموات والأرض الحكيم العدل الغفور الرحيم وكذلك يسأل الله تعالى لهم أن يزيد المحسن منهم إحساناً ومن أساء أن يتجاوز عنه ويبدله رحمة وغفراناً.
تلخيص الفصل
هذا الفصل يتعلق بعلم الإمام ابن تيمية الموسوعي وأنه قد تبحر في العلوم النقلية والعقلية ثم أثمر عن ذلك مؤلفات في شتى القضايا ومختلف الموضوعات والتي قد تنوعت وتعددت وألمعت كثيراً من حقائق هذه الشريعة الغراء، وبتنوع مؤلفاته شهد له العلماء بعلو كعبه في العلوم ورسوخه فيها وقد كان من العلماء المكثرين من التصنيف مع ما كان عليه من الجهاد والتعليم والتربية والحبس والترسيم ... وتنوعت ما بين مؤلفات في القرآن الكريم وعلومه وكذلك كثرت مؤلفاته في السنة المطهرة وعلومها إضافة إلى ذلك فقد أمتع المسلمين بأبحاث له في علوم الآلة من أصول الفقه ولغة ومنطق حيث عمل على تقويض الباطل وبناء قواعد على مبدأ الشرع الحنيف وقد أرسل إليه العلماء وكافة طبقات المجتمع رسائل من سائر البلدان يسألونه في أمور دينهم فيجيبهم بقريحة ألمعية وأجوبة زكية فتكوَّن من ذلك صرح من الفتاوى في الفقه والعقيدة، فمؤلفاته كلها قيمة وقد أكثر من التصنيف في الفقه والعقيدة ما بين فتاوى وشروح أو ردود أو تأصيل وتقعيد ابتداءً.
ولما لهذا الإمام من منزلة عالية سامية فقد كان يفتي - في أواخر عمره –على ما ترجح له دليله فانفرد ببعض المسائل مما سبب له هذا الانفراد كثيراً من الاعتراضات في عصره وبعده لكن المنصف من هؤلاء العلماء المعترضين ينظر إليه
نظر العالم المجتهد الذي هو مأجور في الحالتين إما مجتهد مصيب فله أجران وإما مجتهد مخطئ فله أجر واحد.
ثم تطرق الكلام في هذا الفصل إلى بعض شبهات أثيرت حول هذا الإمام وهو منها براء بل هي محض افتراء عليه وخُتم الفصل بالكلام على أنصاره وخصومه من الذين تكلموا في حقه وكل من تكلم بما أملاه عليه ضميره وهذه شهادة في عنق قائليها سيسألون عنها أمام أحكم الحاكمين الذي (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) (1).
رأي الباحث
إن علم الإمام ابن تيمية الواسع وفهمه الثاقب وإدراكه الواعي مع ما أوتي من الصلاح والعبادة والزهد والدعوة والجهاد وتربية الخلق وربط قلوبهم بالرب سبحانه لمن أكبر الأدلة على ولايته وإمامته وكثير من الصالحين والعلماء لم يعرف لهم إلا أمر واحد برعوا فيه ومع هذا يوصفون بالصلاح والعبادة و ... فالقراء أو المكثرون من الذكر أو قيام الليل أو المصلحون أو ... يشهد لهم بالصلاح والعلم في جانبهم هذا ألا يشهد لهذا الإمام العبقري بالعلم؟!
هذا لو اقتصر الأمر على العلم فكيف لو أثمر هذا العلم عن مؤلفات ماتعة جليلة في علوم شتى بهرت المتخصصين فيها ألا يدل ذلك على علو كعبه في العلم؟!
ولو أضيف إلى ذلك تقريظ جهابذة العلم من بعده على مؤلفاته وثناؤهم عليه لقطع المنصف يقيناً بأنه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومع هذا فالمسلم يعتقد كمال الاعتقاد أن هذا الإمام يخطئ ويصيب وأن العصمة فقط لأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وأن العالم المجتهد إن أصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد وهو مأجور غير مأزور فهو مثاب في الحالتين، لأنه بذل أقصى ما في وسعه ليتحرى الحكم بالدليل من كتاب أو سنة بفهم علماء سلف هذه الأمة.
¥