تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما الأشاعرة فقد شاركوا الجهمية والمعتزلة في كثير من باطلهم في هذا الباب، فنفوا أكثر الصفات وأثبتوا القليل منها، وحجتهم فيما نفوه هي حجة الجهمية والمعتزلة في نفي جميع الصفات، فشاركوهم في المذهب والاستدلال، وما أثبتوه من الصفات لم يسلم من التخليط، كما في مسألة كلام الله تعالى ومسألة الرؤيا، فكانوا بهذا الإثبات والنفي متناقضين أظهر تناقض، فما يحتجون به على ما نفوه يقتضي نفي ما أثبتوه، وما احتجوا به فيما أثبتوه يقتضي إثبات ما نفوه، فلزمهم إما إثبات الجميع أو نفي الجميع، ولكنهم اختلفوا في موقفهم من نصوص الصفات التي نفوها.

فمنهم من يوجب في هذه النصوص التأويل وذلك بصرفها عن ظاهرها إلى معاني محتملة مرجوحة، ومعاني بعيدة بغير حجة يجب المصير إليها، وسبيلهم في هذا سبيل الجهمية والمعتزلة فيجمعون بين التحريف والتعطيل والحكم على النصوص بأن ظاهرها هو التمثيل الباطل، ومنهم من يوجب في هذه النصوص التفويض وحقيقته أن هذه النصوص لا تدل على معنى مفهوم فلا يفهمها أحد لا الرسول ولا الصحابة فضلاً عن غيرهم، ولازم هذا المعنى بل حقيقته أن نصوص هذه الصفات ليس فيها بيان للناس، ولا هدى ولاشفاء ولا تكون من أحسن الحديث، فإن ما لا معنى له، وما لا يفهمه أحد لا يحصل به شيء من ذلك، وليس أهل التفويض من الأشاعرة وغيرهم بأقل ضلالاً وانحرافاً من أهل التأويل، فإنهم يشتركون في ما نفوا من الصفات، فيشتركون في التعطيل، ويشتركون كذلك في أن هذه النصوص لايجوز اعتقاد ظاهرها، فظاهرها غير مراد عندهم، ولا ريب أن من كان يعتقد أن ظاهرها التشبيه فإنه لا يجوز أن يكون هذا الظاهر مراداً، ولكن أهل السنة يأبون ذلك، فالله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون ظاهر كلامه هو تمثيله بخلقه، فإنه تعالى لم يخبر بما أخبر به من أسمائه وصفاته إلاّ مع تنزيهه عن مماثلة خلقه كما في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، فأثبت لنفسه السمع والبصر ونفى أن يماثله شيء من خلقه، ومعاني أسمائه سبحانه وصفاته معلومة للمخاطبين فإن الله أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، وبهذه النصوص المفهومة عرف المؤمنون ربهم بأنه ذو سمع حقيقة وسع الأصوات، وذو بصر حقيقة فلا يغيب عنه شيء، وذو حياة حقيقة فلا تأخذه سنة ولانوم، وهو الحي الذي لايموت، وهو ذو قدرة تامة فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وذو علم محيط بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو تعالى منزه عن أضداد هذه الصفات من الصمم والعمى والموت والعجز، وكما أنه سبحانه موصوف بهذه الصفات بمعانيها المفهومة للمخاطبين كذلك القول في سائر ما وصف الله به نفسه، من الاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير من الليل، والمحبة والرضا والغضب والفرح والضحك مما جاء في القرآن أو في السنة، معانيها معلومة وكيفياتها غير معقولة لنا، مع الجزم بأن ما يختص به الرب من هذه المعاني ليس مماثلاً لما يختص به المخلوق، حتى الوجود؛ الله موجود، والعبد موجود، وليس وجود الخالق كوجود المخلوق، ولا وجود المخلوق كوجود الخالق وإن كان كل منهما هو وجود ضد عدم، ولايلزم من الاتفاق في معنى كلي اتفاقهما فيما يختص بالخالق أو يختص بالمخلوق.

والتعبير عن الأسماء والمعاني التي في معاجم اللغة منه ما هو تفسير بما يختص بالمخلوق، كتفسير الغضب بغليان دم القلب، أو تفسير الرحمة بأنها رقة، وما أشبه ذلك، ومنها ما هو تفسير بالمعنى العام الذي يصلح أن يضاف إلى الخلق وأن يضاف إلى المخلوق، كما إذا قيل العلم ضد الجهل، والحياة ضد الموت، والسمع إدراك الأصوات، والبصر إدراك المرئيات، وكثير من المعاني يصعب التعبير عنها بحد جامع مانع لكنها معقولة، مثل المحبة والبغض، بل الحياة والسمع والبصر إنما تفسر بذكر أضدادها ومقتضياتها اللازمة لها، ولايعني ذلك نفي حقائقها فتثبت المحبة مثلاً وما تستلزمه من الثواب، والبغض وما يستلزمه من العقاب، ونفي الحقيقة وإثبات لازمها تعطيل مع ما فيه من التناقض، فإن إثبات اللازم يقتضي إثبات الملزوم، ونفي الملزوم يقتضي نفي اللازم.

وقد جاء عن أئمة أهل السنة القول الفصل المتضمن للحق الخالص فمن ذلك قول الإمام مالك لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير