[ ... وإنماالعمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد (النبوي) كان في ولايةالوليد، وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا فيالمدينة حسبما بينه الحافظ لكن يعكر عليه ما رواه أبو عبدالله الرازي في مشيخته (218/ 1) عن محمد بن الربيع الحيزري:" توفي سهل بن سعد بالمدينة هو ابن مائة سنةوكانت وفاته سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليهوسلم. لكن الجيزي هذا لم أعرفه ثم هو معضل، وقد ذكر مثله الحافظ بن حجر في " الإصابة " (2/ 87) عن الزهري من قوله فهو معضل أيضاً أو مرسل، ثم عقبه بقوله:" وقيل قبل ذلك، وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية "، وجزم في " التقريب " أنهمات سنة 88 فالله أعلم.
وخلاصةالقول أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحداً من الصحابة كان في عهد عمليةالتغيير هذه، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل، فما جاء في شريح مسلم " (5/ 13ـ14) أن ذلك كان في عهد الصحابة، لعل مستنده تلك الرواية المعضلة أو المرسلة، وبمثلهالا تقوم حجة، على أنها أخص من الدعوى، فإنها لو صحت إنما تثبت وجود واحد منالصحابة حينذاك، لا (الصحابة).
وأما قول بعض من كتب في هذه المسألة بغير علم:
" فمسجد النبي صلى الله عليهوسلم منذ وسعه عثمان رضي الله عنه وأدخل في المسجد ما لم يكن منه، فصارت القبورالثلاثة محاطة بالمسجد لم ينكر أحد من السلف ذلك ".
فمن جهالاتهم التي لا حدود لها ـ ولا أريد أن أقول: إنها من افتراءاتهم ـ فإن أحدا من العلماء لم يقل إن إدخال القبور الثلاثة كان فيعهد عثمان رضي الله عنه، بل اتفقوا على أن ذلك كان في عهد الوليد بن عبد الملك كماسبق، أي بعد عثمان بنحو نصف قرن ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون * ذلك لأن عثمان رضيالله عنه فعل خلاف ما نسبوا إليه، فإنه لما وسع المسجد النبوي الشريف احترز منالوقوع في مخالفة الأحاديث المشار إليها، فلم يوسع المسجد من جهة الحجرات، ولميدخلها فيه، وهذا عين ما صنعه سلفه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً، بل أشارهذا إلى أن التوسيع من الجهة المشار إليها فيه المحذور المذكور في الأحاديثالمتقدمة كما سيأتي ذلك عنه قريباً.
وأما قولهم:" ولم ينكر أحد من السلف ذلك ".
فنقول: وما أدراكم بذلك؟ **! فإن من أصعب الأشياء على العقلاء إثبات نفي شيء يمكن أن يقع ولم يعلم، كما هومعروف عند العلماء، لأن ذلك يستلزم الاستقراء التام والإحاطة بكل ما جرى، وما قيلحول الحادثة التي يتعلق بها الأمر المراد نفيه عنها، وأنى لمثل هذا البعض المشارإليه أن يفعلوا ذلك لو استطاعوا، ولو أنهم راجعوا بعض الكتب لهذه المسألة لماوقعوا في تلك الجهالة الفاضحة،
= ولوجدوا ما يحملهم على أن لا ينكروا ما لم يحيطوابعلمه، فقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (75ج9) بعد أن ساق قصة إدخال القبرالنبوي في المسجد:
" ويحكي أنسعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً ".
وأنا لا يهمني كثيراً صحة هذهالرواية، أو عدم صحتها، لأننا لا نبني عليها حكماً شرعياً، لكن الظن بسعيد بنالمسيب وغيره من العلماء الذين أدركوا ذلك التغيير، أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار،لمنافاته تلك الأحاديث المتقدمة منافاة بينة، وخاصة منها رواية عائشة التي تقول:" فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً "
فما خشي الصحابة رضي الله عنهم قد وقع ــ مع الأسفالشديد ـ بإدخال القبر في المسجد، إذ لافارق بين أن يكونوا دفنوه صلى الله عليهوسلم حين مات في المسجد ـ وحاشاهم عن ذلك ـ وبين ما فعله الذين بعدهم من إدخال قبرهفي المسجد بتوسيعه، فالمحذور حاصل على كل حال كما تقدم عن الحافظ العراقي، وشيخالإسلام ابن تيمية، ويؤيد هذا الظن أن سعيد بن المسيب أحد رواة الحديث الثاني كماسبق، فهل اللائق بمن يعترف بعلمه وفضله وجرأته في الحق أن يظن به أنه أنكر على منخالف الحديث الذي هو رواته، أم أن ينسب إليه عدم إنكاره ذلك، كما زعم هؤلاءالمشار إليهم حين قالوا " لم ينكر أحد من السلف ذلك "
¥