الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميداً فقوَّى بها قلبي
لما وصلا للمأمون جاء خادم للإمام احمد بن حنبل وهو يكفكف دموعه ويقول:"عز علي يا أبا عبدالله أنْ جرد أمير المؤمنين سيفاً لم يجرده قط؛ وبسط نطعا لم يبسطه قط ... "
فبرك أحمد على ركبتيه ولحظ إلى السماء بعينه ثم قال: سيدي غر هذا الفاجر حلمك، حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل؛اللهم فإن يكنْ القرآنُ كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته؛فما مضى الثلث الأول من الليل إلا وقد جاء الصريخ: لقد مات أمير المؤمنين؛ وذلك في عام مائتين وثمانية عشر
ثم تولى بعده المعتصم؛وقد اتخذله مستشارا مبتدعا يسمى أحمد بن أبي دؤاد؛ فسمم أفكاره؛ ولم يزل بتحريضه على أهل السنة
وهكذا يعذب [الإمام أحمد] في سبيل عقيدته ,تُخلَع يداه، ويُجلد بالسياطَ الكثيرة، يختار الظالمون له عددًا من قساة القلوب، وغلاظ الأفئدة ليجلده كل واحدٍ منهم سوطيْن بكل ما أوتيَ من قوة، وهم يتعاقبون عليه، وهو ثابت كالطَّوْد الأشمِّ، لا يتراجع أبدًا، يغمى عليه من شدة التعذيب ثم يفيق، فيعرض عليه الأمر فلا يتراجع،.
قال أحمد: في اليوم الذي خرجت فيه للسياط ومدت يداي للعقابين إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول: تعرفني؟ قلت: لا؛قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللصُّ الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين إني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر فأنت في طاعة الرحمن لأجل الدين.
فكان الإمام أحمد دائما يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم؛ عفا الله عن أبي الهيثم؛
ولا زالوا به يعذبون ولكن أنى لهم مع امام جبل همام انتصر بإيمانه وبناء نفسه، وبتوفيق الله قبل هذا وذاك، وكان انتصاره دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة. لقد خرج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخل في الكِير، فخرج ذهبًا أحمر، وتواطأت القلوب على محبته، حتى أصبح حبه شعارًا لأهل السنة. فأين الذين عارضوه؟ وأين الذين عذَّبوه؟ وأين الذين نالوا منه؟ ذهبوا إلى ما قدموا.
وبقي حيًّا بذكره ... والذكر للإنسان عمر ثانٍ
العاقبة:
وفي عام مائتين واثنين وثلاثين تولى المتوكل رحمه الله، فنصر الله به الدين؛ وأقام به السنة؛ وأظهر عقيدة السلف أهل السنةودعا إليها؛ بعد ابتلاء أهلها وفتنتهم وامتحانهم على عهد ثلاثة من الخلفاء قبله
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) لما أهينَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ اللهِ من قبل أبن أبي دؤاد، رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال:
(اللهم إنه ظلمني ومالي من ناصرٍ إلا أنت، اللهم أحبسهُ في جلده وعذِبه).
فما ماتَ هذا حتى أصابه الفالج فيبست نصف جسمه وبقي نصف جسمه حي.
دخلوا عليه وهو يخورُ كما يخور الثور ويقول:
أصابتني دعوةُ الإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد. ثم يقول واللهِ لو وقعَ ذبابُ على نصفِ جسمي لكأنَ جبال الدنيا وضعت عليه، أما النصف الآخر فلو قرضَ بالمقاريض ما أحسستُ به.
هذه احداث محنة الإمام احمد بن حنبل مع فتنة القول بخلق القرآن يستفيد منها طالب العلم والسالك إلى مجموعة من الدروس والعبر فالإمام احمد بن حنبل كما تقول الكاتبة د. هيفاء السنعوسي (لا أعرف لماذا لا يغادر احمد بن حنبل ذاكرتي كرجل مهم وبارز في التاريخ الاسلامي، فهو يقف بشموخ في الصفحات الاولى في تاريخ ابطال المحن, وقد صبر على الاذى فانتصر للحق، وسحق الباطل، تمنحنا قصة هذا العالم الجليل بمواقفها كلها دروسا عظيمة لا يمكن ان تنسى، وتحقن مشاعرنا بالجلد والثبات على القيمة والمبدأ، وتضاعف في نفوسنا الجانب الايماني لذا، فهو يدخل في باب القصص العظيمة التي تشفي اوجاعنا النفسية.
¥