وقوله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط .. } فنهاه عن البخل بقوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} ونهاه عن الإسراف بقوله {ولا تبسطها كل البسط} فيتعين الوسط بين الأمرين, كما بينه بقوله {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والاقتصاد , فالجود غير التبذير والاقتصاد غير البخل.
فالمنع في محل الإعطاء مذموم وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} واإعطاء في محلالمنع مذموم أيضا وقد نهى الله عنه نبيه صلى لله عليه وسلم بقوله {ولا تبسطها كل البسط} وقد قال الشاعر:
لا تمدحنَّ ابن عباد وإن هطلت ........... يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فأنها فلتات من وساوسه ............ يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
وقد بين تعالى أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا غذا كان مصرفه الذيصرف فيه مما يرضى الله, كقوله تعالى (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين) .. الآية , وصرح بأن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله تعالى {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ... } الآية. وقد قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تعدُّ صنيعةً ............. حتى يصاب بها طريق المصنع
فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا وذلك في قوله {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ... } الآية
فالظاهر في الجواب - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً, ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا, وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة كنفقة الزوجات ونحوها , فتبرع بالإنفاق في غير واجب , وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم (وابدأ بمن تعول) وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم , فلا يجوز له ذلك.
والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال وأما على القول بأن قوله تعالى {ومما رزقناهم ينفقون} يعني به الزكاة فالأمر واضح -والعلم عند الله تعالى) ..
3 - قوله تعالى {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} قال الشخ رحمه الله:
(لا يخفى أن الواو في قوله (وعلى سمعهم وعلى أبصارهم) محتملة في الحرفين أن تكون عاطفة على ما قبلها وأن تكون استئنافية.
ولم يبيَّن ذلك هنا ولكن بُيِّن في موضع آخر أن قوله (وعلى سمعهم) معطوف على قوله (على قلوبهم) وأن قوله (وعلى أبصارهم) استئناف , والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو (غشاوة) وسوغ الابتداء بالنكرة فيه اعتمادُها على الجار والمجرور قبلها , ولذلك يجب تقديم هذا الخبر لأنه هو الذي سوغ الإبتداء بالمبتدأ كما عقده في الخلاصة بقوله:
ونحو عندي درهم ولي وطر .......... ملتزم فيه تقدم الخبر
فتحصل أن الختم على القلوب والأسماع , وأن الغشاوة على الأبصار وذلك في قوله تعالى {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة}
والختم هو الاستيثاق من الشيئ حتى لا يخرج منه داخل فيه ولا يدخل فيه خارج عنه , والغشاوة: الغطا على العين يمنعها من الرؤية. ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
هويتك إذ عيني عليها غشاوة .............. فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
وعلى قراة من نصب (غشاوة) فهي منصوبة بفعل محذوف أي: (وجعل على بصره غشاوة) كما في سورة الجاثية. وهو كقوله:
علفتها تبنا وماءا باردا .............. حتى شتت همالة عيناها
وقول الاخر:
ورأيت زوجك في الوغى ................ متقلدا سيفا ورمحا
وقول الآخر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ................ وزججن الحواجب والعيونا
كما هو معروف في النحو, وأجاز بعضهم كونه معطوفا على محل المجرور ...
فإن قيل:
قد يكون الطبع على الأبصار أيضاً, كما في قوله تعالى في سورة النحل {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} الآية
فالجواب:
أن الطبع على الأبصار المذكور في آية النحل هو الغشاوة المذكورة في سورة البقرة والجاثية والعلم عند الله تعالى) ..
قال الشيخ رحمه الله:
¥