لم يحقق القول في هذه المسألة الخطيرة، بل في الكتاب والسنة الخبر اليقين عن ثباتها، وعدم حركتها، إلا بزلزلة ونحوها. كما أن العقول تعرف ذلك، وسأذكر إن شاء الله من الأدلة والبراهين ما يشفي ويكفي.
بداية هذا الضلال
لما كان القول بدوران الأرض حلقة من سلسلة متصل بعضها ببعض، كان لابد من النظر في أصل ذلك وبدايته، ومتابعته للنظر في نهايته، ليتجلى الأمر على حقيقته بدون التباس.
ولعدم إيمان الدهرية بالخالق سبحانه ووحيه، نظروا إلى الكون باحثين عن أصل المخلوقات والحياة، معتمدين على عقولهم الضالة، وما توحيه إليهم شياطينهم، التي يعتبرون وجودها خرافة كغيرها من الخرافات، مثل وجود الرب سبحانه والملائكة والسماوات المبنية والكرسي والعرش، كل هذا لا يدخل حسابهم، ولا يذكرونه في علومهم. فقد تخلوا عنه. ولما كان الأمر كذلك، قادهم هذا الدليل الذي اعتمدوه إلى أسوء مصير.
ومعلوم أن العقول لو كملت فهي لا تستقل بمعرفة هذه الأشياء على حقيقتها، ولا كيف تكونت، ولا سيما هذه المخلوقات البعيدة الرفيعة من الشمس والقمر والكواكب والسماوات، فلا بد لمعرفتها من نور الوحي. وعقول هؤلاء ضالة مضلة، تتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض، لا تهتدي إلى خير، ولا توفق إلى رشاد، وإن ادعوا أنهم علماء، وأنهم فاقوا من سواهم، فإن فرعون يقول لقومه: ((وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)).
والجاهلية التي يعيشونها اليوم لا تشبه جاهلية العرب، فأولئك كانت لهم عقول يعرفون بها الخالق ويقرون به، وأنه خالق السماوات والأرض وجميع المخلوقات، بل ويعبدونه، لكنها عبادة شركية لا تنفعهم. أما هؤلاء فهم أحط خلق الله وأرذله. لكن الداء العضال الذي كان من أعظم أسباب الفتنة بهم وبعلومهم المضلة هو: ما ظهر على أيديهم من هذه المخترعات، التي كان وجودها مفترق الطريق بين منهج السلف وسلوكهم، وهذا النهج الجديد، الذي طبق الأرض بأجمعها، وهو التشبه بهم فأفسدوا الدين والدنيا.
وتقول امرأة منهم: إن أول خطوة في تعاسة الشرق، تجيء من عدم رضا الشرقيين عن قيمهم. فإمام ما يحيط بهم من بهرج حضارتنا الآلية، سرعان ما تبدوا الفضائل المعتصرة من قسوة حياتهم هزيلة لا نفع فيها ولا غناء. وبذلك تفقد روحهم كرامتها في هذا العالم وإيمانها بالعالم الآخر. انتهى.
فلما فتنت القلوب بذلك، وهو هذه الحياة الجديدة الناعمة التشبهية، وانبهرت لهذه الرفاهيات الدنيوية الدنية، مع بعد العهد عن نور النبوة، دخلت الشرور ووقع المحذور. وكان من نتائج ذلك وثماره: تعظيم قلوب المسلمين لهم، وشعوهم بالنقص والتخلف، قياسا عليهم، مما أوجب ذلا نفسيا لا يفارق قلوب المفتونين بهم، حتى أنه أصبح من مصطلحات أهل العصر التي لا يختلفون فيها، إذا أطلق لفظ التخلف أو الجهل، فإنما يقصدون به ما يضاد ما عليه هؤلاء الضلال.
ولذلك يطلقون اسم العلم والتقدم والنهضة والحضارة وما يشبه ذلك،مما يشعر بحسن الحال والإرتقاء لدرجات الكمال على جاهليتهم، التي لو أن لجاهلية العرب جاهلية لكانت هذه. فكيف يطلق على علوم هؤلاء اسم العلم؟! وكيف يسمون علماء وهم أضل من الأنعام؟! حتى ولا يشبهون الفلاسفة القدامى، فأولئك رغم ضلالهم، فإن لهم عقول ومدارك ليست لهؤلاء، ويعتمدون على أصول وقواعد، وإن كانت غير صحيحة، فإنها مشوبة بنوع من الحق. فكثير منهم لا يرفضون النبوات مطلقا كهؤلاء، بل يوجد كثير من العلم الذي جاءت به الأنبياء في كلامهم.
أما هؤلاء فقد انتحلوا طريقة يعتمدون فيها اعتمادا كليا على عقولهم وشياطينهم، سموها طريقة العلم والبحث والتجربة، وسدوا على أنفسهم كل طريق، وكل باب إلا هذا، فكان من نتائج ذلك القول بدوران الأرض.
وهذا وإن كانوا مسبوقين إليه، فيلس قولهم فيه كقول من سبقهم من الضلال، فهم يعللون وجود هذه المخلوقات وحركتها تعليلا طبيعيا آليا مقطوعا عن خالق مدبر، وهذا ظاهر في جميع علومهم.
ولذلك يحيلون إلى ماض سحيق مقدر في أذهانهم، ولم يحيطوا بعلمه.
قال بعض من كتبوا عنهم يصفون حالهم:
¥