وفيهم قوم يقرون بوجود الخالق سبحانه وقدرته ومع هذا يعتقدون أن المخلوقات تكونت بهذه الصورة التدريجية بقدرته، وقد يرفضون أن يكون الإنسان تطور من القرود، وكذلك كثير من الذين ينتسبون للإسلام سلكوا هذا المسلك في نشأة المخلوقات، فتجد ذلك في مؤلفاتهم ومناهجهم كما في علم الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ وغير ذلك مما خالط علوم أهل الإسلام فأفسدها.
والكلام الآن ليس مع الجاحدين لوجود الخالق عباد الطبيعة، وإنما هو مع الذين يقرون بوجوده وقدرته فيقال لهؤلاء الذين راج عليهم نشوء المخلوقات وتدرجها ليس هذا معتقد أهل الإسلام فإن معتقدهم أن الرب سبحانه وبحمده يقول للشيء: كن فيكون على الكيفية التي يريدها سبحانه في الوقت الحالي لا يتأخر ليتدرج ويتطور ويكتمل حتى يكون على الصفة المطلوبة بعد الأزمنة الطويلة والتحولات والتغيرات التي يزعمها عباد الطبيعة.
قد يقول قائل: نحن نرى المخلوقات تنشأ شيئا فشيئا وتتدرج في نشأتها مثل خلق الإنسان والحيوان والنبات فإن هذا كله يبدأ صغيرا ضعيفا فما يزال ينمو حتى يكبر ويكتمل.
فالجواب أن هذا لون والتطور والتدريج في النشأة والترقي الذي يزعمه الدهرية لون آخر، وذلك أنهم تكلموا بما تكلموا به وقرروا ما قرروه من هذه القاعدة بناءا على أن المخلوقات بنفسها تتغير إلى الأحسن وتترقى إلى الأكمل والبقاء فيها للأصلح لذلك زعموا أن أصل الكائنات الحية كلها شيء في غاية الصغر يسمى الأميبا، ويعللون بداية تكوينه بتعليلات خيالية من جنس سائر ما يعتمدون عليه في علومهم بعضهم يقول: اتفقت عناصر التربة في قعر بعض المحيطات مع الحرارة وتكون هذا الاميبا وبعضهم يقول: إنه جاء من كوكب آخر، وغير ذلك من خرصهم ودجلهم، فهم يقولون: مازال الأميبا ينمو ويتدرج من طور إلى طور حتى صارت منه هذه الكائنات الحية كلها، فالحيوان، والإنسان والحشرات كل ذلك من أصل واحد، وهذا لا شيبه فعل الله سبحانه وتعالى في خلقه الكائنات.
فإن الإنسان مثلا يبدأ خلقه من النطفة فيكون إنسانا لا يكون في الأول سمكة ثم ضفدعا ثم قردا ثم إنسانا، بل هو إنسان من البداية إلى النهاية، لكن تلك بدايته وهذه نهايته في التخليق. وكذلك الحيوان والنبات وهذه سنة الله في خلقه لم تتغير. والتطور لكل الكائنات أصله واحد.
فقد ظهر الفرق بين التطور المزعوم والخلق، وأن الأول خيال لا حقيقة له وهو الكيفية التي يذكرونها لتدرج المخلوقات بفعل الطبيعة، والثاني فعل الخالق القادر الحكيم سبحانه. ومما يوضح ذلك أن الرب سبحانه كتب مقادير الخلائق. قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما ورد في الحديث الصحيح، وهو سبحانه كتب مقاديرها على الكيفية التي خلقها عليها لكمال علمه وقدرته.
أما التطور والترقي الذي يزعمه الدهرية فهو لبلوع الصورة الكمالية للكائن تدريجيا فعل من ليس بعالم ولا قادر ولا حكيم وهو الطبيعة.
وقد اقتضت حكمة الرب سبحانه أن يخلق الإنسان بهذه الكيفية وكذلك الحيوان والنبات ليس عجزا منه أن يخلقه كاملا في نفس الوقت، فإنه لما أراد ذلك خلق آدم رجلا مكتملا وكذلك حواء خلقها امرأة كاملة.
وقد نوع لنا من مفعولاته ما نستدل به على قدرته وحكمته ونعلم به يقينا بطلان كلام الطبائعيين في تكون الكائنات، فهذا آدم عليه السلام خلقه من غير ذكر ولا أنثى، وحواء من ذكر بلا أنثى، وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر وسائر بني آدم من ذكر وأنثى، وهذا مما يبين عظيم قدرته سبحانه.
ذلك قلب عصا موسى عليه السلام حية في الحال وأعادها عصا كما كانت وغير ذلك كطيور إبراهيم عليه السلام، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها والذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم وغير ذلك.
بمعرفة ما تقدم يتبين لنا أن الرب عز وجل خلق الأرض على كيفيتها هذه صالحة للحياة من حين خلقها، لم تكن غازا يدور وبعد ملايين السنين برد وتكثف وصلح للحياة. لأنها لم تنفصل عن الشمس كما يزعمون.
فالرب سبحانه يخلق بكلماته الكونية، قال تعالى: ((إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون))، وقال تعالى: ((وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر)).
¥