فإذا لم يستقم هذا الوصف ولم يصح لأن جريان الشمس ودورانها حول الارض ضد القرار ولذلك قرأ ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: ((والشمس تجري لا مستقر لها)) كذلك ابن مسعود قرأها هكذا. فكذلك الأرض لا يصح وصفها بالقرار وهي تدور حول الشمس على زعم من يدعي أن الرواسي تحفظها من الميدان أثناء الدوران. كذلك فإن من يقر بدوران الأرض حول الشمس يلزمه القول بثبات الشمس، فلابد من ذلك، فإذا أقر بجريان الشمس كما ورد في الكتاب والسنة، وكما تعرفه العرب من كلامها أصبح دوران الأرض لا معنى له لأن الغرض المطلوب يتم بذلك كما تقدم. ولا ينفعه إقراره بجريان الشمس أنه دورانها حول المجرة. فهذا مجاراة لهذه النظريات الباطلة بتأويل كلام الله بالباطل، فجريان الشمس في القرآن هو دورانها حول الأرض بالفلك وهو السماء.
العلم بالباطل من أعظم أسباب تعظيم الحق
يقال:
الضد يظهر حسنة الضد وبضدها تتبين الأشياء
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما وبقدره أعرف إذا هدي إليه
وقال ابن القيم رحمه الله: وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له وكراهة لها ونفرة عنها أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به فيقوى إيمانه به. وذكر رحمه الله كلاما ثم قال:
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالا يعلمه إلا الله ... إلخ.
قال ابن القيم رحمه الله: التفكر والتذكر أصل الهدى والفلاح وهما قطبا السعادة.
وقال: وأحسن ما أنفقت فيه الأنفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته.
بداية خلق السماوات والأرض ومادة خلقها
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأهل الملل متفقون على أن الله خلق السماوات والأرض وهو الدخان الذي هو البخار كما قال تعالى: ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)) وهذا الدخان هو بخار الماء الذي كان حينئذ موجود كما جاءت بذلك الآثار عن الصحابة والتابعين وكما عليه أهل الكتاب.
وقال: قبل أن يخلق الله هذه السماوات وهذه الأرض وهذا النهار كان العرش على الماء كما قال تعالى: ((وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء)) وخلق الله من بخار ذلك الماء هذه السماوات وهو الدخان المذكور في قوله تعالى: ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان)) الآية. انتهى.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض)) وثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)).
قال شيخ الإسلام: وهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. انتهى.
فالعرش موجود والرب عال عليه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقبل وجود السماوات والأرض. وكذلك الماء الذي تحته وأخبر أنه استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض.
وهذا كله لا يعرفه الملاحدة ولا يذكرونه لأنهم تائهين مع بلايين السنين وملايينها والسنين الضوئية. وهذا كله خيال في الأذهان لا وجود له ولا حقيقة في الوجود الكوني والأعيان وقد تقدم الفرق بين الحقيقة الموجودة خارج الذهن وبين الصورة الخيالية الذهنية.
معرفة الله داعية إلى تعلق القلب والهمة به
تكلمنا عن المخلوقات وصفاتها الباطلة وصفاتها الصحيحة فيحسن أن نختم هذا الموضوع بكلام نستدل به على خالق هذه المخلوقات دلالة خاصة سلمها التفكرالصحيح في مخلوقاته فإنه هذا هو غاية المطالب ونهاية المآرب وذلك زيادة على ما تقدم.
قال شيخ الإسلام: فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق في غاية الصغر كما قال تعالى: ((وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟))
وقال ابن عباس: يقبض عليهما فما ترى طرفاهما بيده. يعني السماوات والأرض. وفي لفظ عنه ((ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهمن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم))
وذكر الشيخ رحمه الله غير هذا في العرشية ثم قال:
ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ما يبين أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة. انتهى.
وقال رحمه الله: والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السماوات السبع والارض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. انتهى.
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ........ ومن هو فوق العرش فرد موحد
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عبدالكريم بن صالح الحميد
1407 هـ
¥