وأنا أُجِلُّ ابن القيم عن أن يكون ذكر هذه السفسطة للاحتجاج بها، وإنما ذكرها استطراداً.
فقال سماحته: أفدنا أطال الله في عمرك.
قال شيخنا: فقلتُ له: إني أصبحت وإياك على طرفي نقيض، أنتم تمثلون طائفة من المسلمين تقول بفناء النار وانقطاع عذابها، وأنا أمثل طائفة من المسلمين تقول النار أبدية وعذابها لا ينقطع، والله تعالى يقول: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)) إلى قوله تعالى ((ذلك خير وأحسن تأويلا)).
فقد أصبحنا يا سماحة الشيخ بمثابة المتناظرين، ولا بد للمتناظرين من حَكَمٍ يُحكامنه بينهما يرجعان إليه لئلا يتسع الخلاف.
قال سماحته: فماذا ترى أن نحكم بيننا؟.
قال شيخنا: أرى أن نحكم بيننا كتاب الله تلاوةً لا تأويلا، معناه أنه لا يقبل من أحدنا الاستدلال إلا بآية يشهد له منطوقها بدلالة المطابقة.
قال سماحة الشيخ محمد: فقد حكمنا بيننا كتاب الله تلاوة لا تأويلا.
فقال الشيخ الأمين: إذا شاء سماحتكم بحثنا هذه المسألة بالدليل الجَدَلي المعروف بالسبر والتقسيم، والذى أتى به صاحب مراقي السعود ـ المسلك الرابع من مسالك العلة ـ حيث يقول:
والسبر والتقسيم قسم رابع أن يحصر الأوصاف فيه جامع
ويبطل الذي لها لا يصلح فما بقي تعيينه متضح
ومعنى البيتين: أن يجمع المتناظران أو المتناظرون الأوصاف التي يحتمل أن تكون مسألة النزاع متصفة بها، فإن اتفقا أو اتفقوا أنَّ أوصاف المسألة محصورة فيما جمعوا، شرعوا في سبرها، أي: في اختبارها، أي: بعرضها واحدة بعد واحدة على المحكم، فما رد منها المحكم وجب رده، وما بقي تعيَّن الأخذ به.
فقال سماحة الشيخ محمد: وافقنا على بحث المسألة بالسبر والتقسيم.
قال شيخنا: قيدوا ما تتفقون عليه من احتمالات للمسألة لتتمكنوا من عرضها على المحكم واحدة بعد الأخرى، فمثلاً:
يحتمل: أن النار تخبو.
ويحتمل: أنها تأكل من أُلقي فيها حتى لا يبقى من أهلها شيء.
ويحتمل: أنهم يخرجون منها فراراً منها.
ويحتمل: أنهم يموتون فيها، والميت لا يحس ولا يتألم.
ويحتمل: أنهم يتعودون حرَّها فلا يبق يؤلمهم.
ويحتمل: أنه لا يقع شيء من ذلك كله، وأنها أبدية وعذابها لا ينقطع.
ولمّا اتفق الحضور على أنه لا يوجد احتمال بعد هذه الاحتمالات الستة المقيدة، ابتدؤوا بعرض الاحتمالات على المحكم.
قالوا: يحتمل أنها تخبو، فإذا المحكم يقول: ((كلما خبت زدناهم سعيراً))، ومعلوم أن (كلما) أداة من أدوات التكرار بلا خلاف، فلو قلت لغلامك: كلما جاءك زيد أعطه كذا من مالي، فإذا منعه مرة ظلمه بلا خلاف.
وقالوا: يحتمل أنها تأكلهم حتى لم يبق منهم شيء، فإذا المحكم يقول: ((كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب))، فلم يبق لهذا الاحتمال نصيب بموجب هذه الآية.
وقالوا: يحتمل أنهم يخرجون منها هاربين، فإذا المحكم يقول: ((كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها))، ويقول: ((وما هم منها بمخرجين))، فلم يبق لهذا الاحتمال أيضاً نصيب من الاعتبار.
وقالوا: يحتمل أنهم يموتون فيها والميت لا يحس ولا يتألم، فإذا المحكم يقول: ((إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحي))، ويقول: ((ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت))، فلم يبق لهذا الاحتمال نصيب من الاعتبار.
وقالوا: يحتمل أنهم يتعودون حرها فلم يبق يؤلمهم لتعودهم عليه، فإذا المحكم يقول: ((فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا))، ويقول: ((إن عذابها كان غراماً))، والغرام: الملازم، ومنه جاء تسمية الغريم، ويقول المحكم: ((فسوف يكون لزاما))، فلم يبق لهذا الاحتمال أيضاً نصيب من الاعتبار.
قال شيخنا: فلم يبق إلا الاحتمال السادس، وهو أنها أبدية وعذابها لا ينقطع، وقد جاء ذلك مبيناً في كتاب الله العزيز في خمسين موضعاً منه.
فسردها لهم مرتبة بحسب ترتيب مصحف عثمان رضي الله عنه، وكأنها جاءت مسرودة في صفحة واحدة.
وعند ذلك قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية، قال: آمنا بالله وصدقنا بما جاء في كتاب الله.
فقال شيخنا على رحمة الله: وعلينا أن نجيب عن أدلة ابن القيم، وإلا تركنا المسلمين في حيرة، ولنجيبنَّ عليها بالكتاب تلاوة لا تأويلا، فنقول:
¥