وكذلك غلاة الصوفية الذين يغلون في مشايخهم، ويرون أن من قال لشيخه لمَ؟ فقد كفر، ويقولون: إذا كنت عند الشيخ فكن كالميت بين يدي الغاسل.
ي. وسط في التعامل مع ولاة الأمور:
فأهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط بين المفرطين والمُفرطين، فليسوا كالمفرطين الغلاة، الذين يدينون بالخروج على أئمة الجور، ويرون أنهم وحدهم هم سبب الشر والفساد، وأن الخروج عليهم كفيل بإصلاح الأحوال، وذلك كحال الخوارج الذين يرون أن الفساد سببه الولاة، وأن الخروج عليهم واجب متعين، وإن الوسيلة الوحيدة للإصلاح عندهم – كما يشهد تاريخهم – هو الخروج على أئمة الجور، بل ربما خرجوا على أئمة العدل، كما فعلوا مع علي –رضي الله عنه-.
وكحال المعتزلة الذي جعلوا الخروج على الأئمة أصلاً من أصول دينهم، وليسوا كالمفرطين المداهنين، المتخاذلين، المخذلين، الذين سكتوا عن ظلم الولاة وتركوا نصحهم، والإنكار عليهم، بل ربما زينوا لهم باطلهم، وسوغوا لهم ظلمهم، وفسادهم، وربما أنكروا على من ينكر عليهم.
وليسوا كالمداحين المنافقين، الذين يغالون في الولاة، ويمدحونهم بما ليس فيهم، وربما أدّعوا لهم العصمة، وخلعوا عليهم صفات لا تليق إلا برب العالمين، وأطاعوهم بكل ما أمروا به حقا كان أم باطلاً.
فهم يدينون لولاتهم بالسمع والطاعة، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر وعلى أثرة عليهم، مالم يؤمروا بمعصية فيرون أنه لا سمع ولا طاعة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تكون الطاعة بالمعروف.
كما أنهم يدينون بالنصيحة لولاة الأمر، ويتعاونون معهم على البر والتقوى وإن كانوا فجاراً، لإن هدفهم الوحيد تحصيل المنافع وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فلا يمتنعون من إعانة الظالم على الخير، وترغيبه فيه، فيشاركون الأئمة الظلمة في الخير، ويفارقونهم بالشر.
ولذلك فهم يرون إقامة الجمع والجماعات، والأعياد معهم،ويرون أن الجهاد ماض إلى قيام الساعة مع كل بر وفاجر.
ثم أنهم لا ينزعون يداً من طاعة، ولا ينازعون الأمر أهله، ولا يرون أن الأئمة يتحملون مسؤولية كل منكر وفساد،نعم هم يتحملون المسؤولية الكبرى ولكن كل مسلم عليه مسؤولية يجب أن يقوم بها حسب قدرته واستطاعته. كما أنهم لا يدينون بالخروج على أئمة الجور، فضلاً عن أئمة العدل، إلا إذا رأوا كفراً بواحاً، عندهم من الله فيه برهان، وكان لديهم قوة ومنعة، ولم يترتب على الخروج مفسدة أعظم، لئلا يجروا الأمة إلى البلايا والرزايا.
ثم أنهم أبعد الناس عن إغراق الولاة بالمديح الكاذب، والأطراء القاتل الذي يدخل الغرور في قلوب الولاة، ويورثهم الإعجاب بالنفس، وتناسي العيوب، وظن الكمال، فلا يعرفون بذلك مواطن الخلل، ولا يسعون في علاجها.
إضافة إلى ذلك فأهل السنة لا يرون المداهنة في الدين،ولا مهادنة المعتدين والظالمين، ولا يتوانون في الاحتساب على أئمة الجور، ولا يجبنون عن الصدع بكلمة الحق حسب المقام، وما تقتضيه المصلحة، لا يداهنون بذلك أحداً، ولا يخافون بالله لومة لائم.
على أنهم لا يرون أن يقوم بذلك الواجب كل أحد بعينه، إلا إنه لا بد أن يقوم به من يقوم، حتى ينتفي الحرج عن الأمة،ويرون أن من لم يستطع الصدع بالحق – فلا أقل من أن يؤيد الحق ولو بقلبه، وأن يكره الباطل، ويجانب أهله.
أما من قام بالحق وأوذي في سبيله، وصبر واصطبر على ذلك فله أجر عظيم، ومن قتله سلطان جائر بعد أن أمره ونهاه فهو سيد الشهداء.
وخير مثال تطبيقي لتعامل أهل السنة مع ولاة الأمر، ما قام به الأمام أحمد ابن حنبل رحمه الله إبان القول بفتنة خلق القرآن، فلقد أوذي، فلم تكن له قناة، ولم يفت له عضد، ولم يتوان عن قول الحق بل صدع به، وتحمل تبعات ذلك.
وفي الوقت نفسه لم يأمر أتباعه بالخروج على ولاة الأمر، بل نهاهم عن ذلك، وحذرهم أشد التحذير.
ومن الأمثلة على ذلك ما كان من أمر الشيخ ابن تيمية رحمه الله فلقد أوذي من قبل السلطة بسبب نشره لعقيدة السلف وتقريره لها، ورده على سائر الطوائف والفرق الضالة، وسجن بسبب ذلك، ولاقى الويلات إثر الويلات، فما سكت عن الحق، وما تخلى عما يدعوا إليه، كما أنه لم يأمر بالخروج على الأئمة، بل كان شديداً في التحذير منه.
41. التورع عن الفتيا:
¥