ويقول الأستاذ أبو البندورة: ونضيف أن ابن طفيل قد أراد من خلال تناوله عالم ما وراء الطبيعة كشف الوصول إلى "الحكمة المشرقية" التي ذكرها ابن سينا، كما أكد ذلك لبن طفيل نفسه في مطلع قصة حي بن يقظان، باعتبار أن الحكمة المشرقية على ما يبدو من رأيه هي قمة المعرفة الإنسانية.
ما وراء الطبيعة يتناول الوجود الطبيعي في ماهيته الأولى التي لم يتح للوجود الإنساني معاصرة أو مشاهدة نشوء هذه الماهية، ولم يكن للعقل البشري المجال للإحاطة بمدى هذه الماهية. ولتأريخ نشوء الوجود الطبيعي لا بد من اعتماد المقياس التقليدي ونعني به الزمن. وفي قصة حي بن يقظان لا يُجْزَمْ ما إذا كان الزمن سابقاً لوجود العالم أم لاحقاً به.
ونحن نرى أن المشكلة الأساسية في نظر ابن طفيل ليست هي اعتقاد حدوث العالم أو اعتقاد قدمه، وإنما هي فيما ينشأ عن كل من الاثنين، وهو يرى أنه سواء اعتقادنا قُدم العالم أو حدوثه، فإن النتائج عن ذلك واحد، وهو أن هذا العالم لا بد له من موجِد ومن محرك.
وعلى كل فإن نشوء وتحقق الوجود يمر عند ابن طفيل بمراحل ثلاث هي، وهذا يعني أن ابن طفيل قد ذهب مذهب أرسطو في ذلك:
- الهيولي: ومن المعروف أن الهيولي شبيهة بالعدم فهي خالية من الحياة مجردة من الماضي المادي وتنتفي منها الصورة.
- العناصر الأربعة: وهي الماء والهواء والتراب والنار، وهي المظاهر الطبيعية الأولى أو أولى مراتب الوجود، فقد تبين لحي أن جميع الأجسام التي في عالم الكون منها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية، وهذه هي العناصر الأربعة.
- الصور: ومنها تتقوم حقيقتها بأكثر من ذلك كالحيوان والنبات. فما كان قوام حقيقته بصور أقل، كانت أفعاله أقل، وبعده عن الحياة أكثر، فإن عدم الصورة محله لم يكن فيه إلى الحياة طريق، وصار في خال شبيهة بالعدم، وما كان قوام حقيقته بصور أكثر، كانت أفعاله أكثر، ودخوله في حال الحياة أبلغ. وإن كانت تلك الصور بحيث لا سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي اختصت بها كانت الحياة حينئذ في غاية الظهور والدوام والقوة.
فالشيء العديم للصورة هو الهيولي والمادة، والمادة ولا شيء من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم، والشيء المتنوه بصورة واحدة هي العناصر الأربعة وهي أولى مراتب الوجود في عالم الكون ومنها تتركب الأشياء ذات الصور الكثيرة.
وهكذا كانت الطريق التي سلكها حي نحو الحكمة المشرقية تكشف عن أسرارها .. فما هي الحكمة المشرقية هذه؟
يذكر ابن طفيل في مطلع قصته أن الحكمة المشرقية المقصودة هي "التي ذكرها الشيخ الإمام الرئيس أبو علي ابن سينا". والحكمة المشرقية، عند ابن سينا، هي إدراك حقائق العالم من طرق الإرادة والعقل. وسبيل ذلك أن يقصد الإنسان إلى أن تتسع معرفته بالوجود ويعظم اختباره حتى يصبح له حدس قوي فيصرف حقائق العالم وعلل المظاهر المتعددة بأدنى تأمل. ويريد ابن سينا أن يفرق بين الحكمة المشرقية وبين التصوف حينما يقول وهو المعنى الذي يسميه الصوفية بالاتحاد. ومع أن ابن سينا ينسب هذا العلم إلى الإدراك العقلي، فإنه يعتقد أن العبادة الباطنة على الأخص وهي التأمل والاستغراق في تفهم حقائق العالم، كالعبادة الظاهرة من الصلاة والصيام، تساعد هذا الإدراك على أن يقوى. أما ثمرة هذا التفهم لمظاهر الوجود وحقائقه، ثم الاستعانة على ذلك بالعبادة الظاهرة والباطنة فهو الكشف أو المشاهدة. وهذا ما أشار إليه ابن طفيل.
وهكذا نرى بوضوح أن الحكمة المشرقية توافق التصوف المعتدل في النتيجة في الكشف والمشاهدة ولكنها تخالفه في الطريقة. إن الكشف في الحكمة المشرقية يأتي من طريق الإرادة والتفكير فإذن هو إدراك عقلي واضح. أما في التصوف فإن ما يُسمى كشفاً يأتي عن طريق إماتة الحواس وإنكار التفكير، فإذن هو صور تُنسَج في الخيال.
وعندما نتابع سيرة حي بن يقظان نجد أن حيّاً قد استطاع أن يحيط بكل شيء عن الوجود من أدنى الأجسام المادية وأصغرها إلى أرقى درجات الصور الروحانية عن طريق العقل الذي أعياه فأصبح متصوفاً، وعرف الله من خلال المشاهدة والكشف. أما كيف حصل على هذه النتيجة، فبوثوب العقل إلى نتيجة التأمل الذي خضع له العقل زمناً طويلاً قبل ذلك من غير شعور بأنه قد مر في مراحل طوال كثار قبل أن وثب إلى تلك النتيجة المعينة.
¥