فعقيدة الثالوث - التي قدمها النصارى للمجتمع الإنساني، واتفقوا عليها - عجيبة وغريبة، وتبدو غرابتها واضحة وجلية عند عرضها على صفحة العقل، الذي كرم الله به الإنسان، ولكن النصارى يرون أن التثليث لا يعالج بمنطق العقل، ولكن بالإيمان والوجدان، وهذا هروب من النصارى في بداية الطريق.
فلا بأس أن نعتمد على الإيمان القلبي في قضية من القضايا الغيبية، ولكن بشرط ألا يحكم العقل فيها حكماً بديهياً باستحالتها وتناقضها.
وإذا كان النصارى يقولون: إن التثليث يصعب تصوره على العقل، فإننا نقول بل يستحيل تصوره لدى العقل، ومن أول جولة معه يخرجه بجذوره ويلقيه في دائرة اللامعقول، ومهما حاول النصارى أن يعللوا هذا التثليث، فسيبقى مراً في حلوق العقلاء.
ولعل هذا ما دفعك للمسارعة بإنكاره والبراءة منه وإلصاقه بمن مات في القرن الغابر! ولن ينفعك ما تدعيه من توحيد مادمت على غير عقيدة الإسلام؛ فإن البراءة من الشرك والدخول في التوحيد لا يتحقق إلا بالدخول في الإسلام، بنطق الشهادتين.
وقد حاول بعضهم التنصل من الشرك؛ فادعى أن الأقانيم الثلاثة هذه ثلاث صفات لذات واحدة، وهي دعوى تبرهن على التناقض؛ لأنه يلزمهم على ذلك أن لا يكون المسيح إلهاً خالقاً رازقاً لأن الصفة ليست إلها خالقا رازقا، وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف وهم متفقون على أن المسيح إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهذا يدل على استحالة الجمع بين التثليث والتوحيد.
وسيظل العقل النصراني يئن تحت وطأة هذا التناقض، وكيف لا يئن ويشتكي أمام قول إثناسيوس الرسولي: "فالأب هو الله والابن هو الله وروح القدس هو الله، وكلهم هو الله"؟!
واعتقادهم أن كل أقنوم من الثلاثة يختص بعمل معين - كما سبق من كلام الدكتور بوست في "قاموس الكتاب المقدس" وكما في الأمانة التي اتفق عليها النصارى" - فبهذا يظهر أمامهم ثلاثة آلهة تبرز برؤوسها، والثلاثة معاً الله، والله يتفرق فيكون ثلاثة، ويجتمع فيكون إلهاً، أين العقل الذي يحتمل ذلك؟! وهذه المقولات بعينها من العقائد التي تتضمن، القول بألوهية المسيح عليه السلام، والقول بأن الله ثالث ثلاثة، -وإن حاولت بعض الدراسة إنكارها-
والمتتبع لأطوار العقيدة النصرانية عبر التاريخ، يجد أن عقيدة التثليث، وكذلك عقيدة بنوة المسيح لله – تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً- وعقيدة ألوهية أمه مريم، ودخولها في التثليثات المتعددة الأشكال ونحو ذلك من الانحرافات، كلها لم تصاحب النصرانية الأولى، وإنما دخلت إليها على فترات متفاوتة عبر التاريخ، مع الوثنيين الذي دخلوا في النصرانية، وهم لم يبرؤوا بعد من التصورات الوثنية والآلهة المتعددة.
وفيما يلي سنذكر نبذ مختصرة عن أسباب وقوع النصارى في الشرك الصريح بجميع طوائفهم قديما وحديثا - إلا بقايا قليلة منهم قبل بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أهم تلك الأسباب على الإطلاق تحريف الإنجيل.
فاعلم أن النصارى كلهم مجمعون على اعتبار الكتب الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبقية العهد الجديد، مع العهد القديم - هي الكتب المقدسة، وكذلك اتفقوا على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح وإنما رآه متى ويوحنا، إلا أنهم يختلفون في بعض الأمور الأخرى، وخلاصة ما قاله المؤرخون عن تلك الأناجيل وعن تحديد الزمان والمكان والكيفية التي كتبت بها، أن ذلك كله مجهول؛ فلم ينته الخلاف بعد حول كاتب كل إنجيل وزمن كتابته، والمكان الذي كتب فيه، واللغة الأصلية التي كتب بها، والجهة التي كتب لها، حتى أن أحد قساوستهم عندما سئل عن مؤلف إنجيل يوحنا قال: "لا يعلم إلا الله وحده مَن الذي كتب هذا الإنجيل"، كما في كتاب "مدخل إلى العهد الجديد" لـ فهيم عزيز، وما يقال عن إنجيل يوحنا يقال عن بقية الأناجيل، وهذه الأناجيل المحرفة كانت من أعظم أسباب تحريف رسالة عيسى عليه السلام، التي هي في أصلها رسالة توحيد.
والنصارى لا يزعمون أنهم يملكون كلام السيد المسيح أو حتى جملة واحدة منه؛ فكل ما عندهم عبارة عن كلام عن السيد المسيح مكتوب باللغة اليونانية، أي كلام من شخص ثالث مجهول عن السيد المسيح، وهذا الكلام إما انه مترجم من نص عبري مفقود، أو كلام إنسان مجهول كتبه باللغة اليونانية، ومن هنا نجد استحالة أن يكون الكلام المنسوب للسيد المسيح في كتبهم له.
¥