نعمته من حق واستعان بها على محرم صار فعله بها وتركه لما فيها سببا للعذاب أيضا فالعذاب أستحقه بترك المأمور وفعل المحظور على النعمة التي هي من فعل الله تعالى وإن كان فعله وتركه بقضاء الله وقدره بعلمه ومشيئته وقدرته وخلقه
فأن حقيقة الأمر أنه نعم العبد تنعيما وكان ذلك التنعيم سببا لتعذيبه أيضا فقد اجتمع في حقه تنعيم وتعذيب ولكن التعذيب إنما كان بسبب معصيته حيث لم يؤد حق النعمة ولم يتق الله فيها
وعلى هذا فهذه التنعمات هي نعمة من وجه دون وجه فليست من النعم المطلقة ولا هي خارجة عن جنس النعم مطلقها ومقيدها فباعتبار ما فيها من التنعم يصلح أن يطلب حقها من الشكر وغيرها وينهى عن استعمالها في المعصية فتكون نعمة في باب الأمر والنهي والوعد والوعيد
وباعتبار أن صاحبها يترك فيها المأمور ويفعل فيها المحظور الذي يزيد عذابه على نعمها كانت وبالا عليه وكان أن لا يكون ذلك من حقه خيرا له من أن يكون فليست نعمة في حقه في باب القضاء والقدر والخلق والمشيئة العامة وإن كان يكون نعمة في حق عموم الخلق والمؤمنين وعلى هذا يظهر ما تقدم من خيرات الله فإن ذلك استدراج ومكر وإملاء
وهذا الذي ذكرناه من ثبوت الإنعام بها من وجه وسلبه من وجه آخر مثل ما ذكر الله في قوله تعالى فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه
فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما آبتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا فإنه قد أخبر أنه أكرمه وأنكر قول المبتلى ربي أكرمن واللفظ الذي أخبر الله به مثل اللفظ الذي أنكره الله من كلام المبتلى لكن المعني مختلف فإن المبتلي اعتقد أن هذه كرامة مطلقة وهي النعمة التي يقصد بها أن النعم إكرام له والإنعام بنعمة لا يكون سببا لعذاب أعظم منها وليس الأمر كذلك بل الله تعالى ابتلاه بها ابتلاء ليتبين هل يطيعه فيها أم يعصيه مع علمه بما سيكون من الأمرين لكن العلم بما سيكون شيء وكون الشيء والعلم به شيء
وأما قوله تعالى فأكرمه ونعمه فإنه تكريم بما فيه من اللذات ولهذا قرنه بقوله ونعمه ولهذا كانت خوارق العادات التي تسميها العامة كرامة ليست عند أهل التحقيق كرامة مطلقا بل في الحقيقة الكرامة هي لزوم الاستقامة وهى طاعة الله وإنما هي مما يبتلي الله به عبده فإن أطاعه بها رفعه وإن عصاه بها خفضه وإن كانت من آثار طاعة أخري كما قال تعالى وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا
وإذا كان في النعمة والكرامة هذان الوجهان فهي من باب الأمر والشرع نعمة يجب الشكر عليها وفي باب الحقيقة القدرية لم تكن لهذا الفاجر بها إلا فتنة ومحنة استوجب بمعصية الله فيها العذاب وهي في ظاهر الأمر أن يعرف حقيقة الباطن ابتلاء وامتحان يمكن أن تكون من أسباب سعادته ويمكن أن تكون من أسباب شقاوته وظهر بها جانب الابتلاء بالمر فإن الله يبتلي بالحلو والمر كما قال تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وقال وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. فمن ابتلاه الله بالمر بالبأساء والضراء والبأس وقدر عليه رزقه فليس ذلك إهانة له بل هو ابتلاء فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدا وإن عصاه في ذلك كان شقيا كما كان مثل ذلك سببا للسعادة في حق الأنبياء والمؤمنين وكان شقاء وسببا للشقاء في حق الكفار والفجار
وقال تعالى (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) وقال تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا) وقال تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلهم نحن تعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلي عذاب عظيم) وقال تعالى (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) وقال تعالى (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون).
وكما أن الحسنات وهي المسار الظاهرة التي يبتلي بها العبد تكون عن طاعات فعلها العبد فكذلك السيئات وهي المكاره التي يبتلي بها العبد تكون عن معاصي فعلها العبد كما قال تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقال تعالى (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم) وقال تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وقال تعالى (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله. .) وقال تعالى (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور).
ثم تلك المسار التي هي من ثواب طاعته إذا عصي الله فيها كانت سببا لعذابه والمكاره التي هي عقوبة معصيته إذا أطاع الله فيها كانت سببا لسعادته. فتدبر هذا لتعلم أن الأعمال بخواتيمها وأن ما ظاهره نعمة هو لذة عاجلة قد تكون سببا للعذاب وما ظاهره عذاب وهو ألم عاجل قد يكون سببا للنعيم وما هو طاعه فيما يري الناس قد يكون سببا لهلاك العبد برجوعه عن الطاعة إذا ابتلي في هذه الطاعة وما هو معصية فيما يري الناس قد يكون سببا لسعادة العبد بتوبته منه وتصبره على المصيبة التي هي عقوبة ذلك الذنب.
فالأمر والنهي يتعلق بالشيء الحاصل فيؤمر العبد بالطاعة مطلقا وينهي عن المعصية مطلقا ويؤمر بالشكر على كل ما يتنعم به
وأما القضاء والقدر وهو علم الله وكتابه وما طابق ذلك من مشيئته وخلقه فهو باعتبار الحقيقة الآجلة فالأعمال بخواتيمها والمنعم عليهم في الحقيقة هم الذين يموتون على الإيمان
ولهذا كان المشروع في حق كل ذي إرادة فاسدة من الفواحش والظلم والشرك والقول بلا علم أحد أمرين إما إصلاح إرادته وإما منع قدرته فإنه إذا اجتمعت القدرة مع إرادته الفاسدة حصل الشر
وأما ذو الإرادة الصالحة فتؤيد قدرته حتى يتمكن من فعل الصالحات وذو القدرة الذي لا يمكن سلب قدرته يسعي في إصلاح إرادته بحسب الإمكان
فالمقصود تقوية الإرادة الصالحة والقدرة عليها بحسب الإمكان وتضعيف الإرادة الفاسدة والقدرة معها بحسب الإمكان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
¥