ومن أراد صدق توبته فليعمل على البعد عن كل ما يعيده إلى معصيته , وليحرس توبته من أن تطولها يد تفسدها عليه.جاعلا من معصيته حافزا للمسارعة في الخيرات وعمل الصالحات والإكثار من الحسنات فإنهن مذهبات للسيئات؛فالله سبحانه ذكر أخذ الزكاة من أموالهم في ثنايا الحديث عن التائبين ونبه في معرض كلامه عن قبوله للتوبة أنه يأخذ الصدقات؛ وفي هذا إشارة ـ والله أعلم ـ أن مما يعين على قبولها أن يبذل معها العبد شيئا من حر ماله برهانا على الصدق فيها (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)) , وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ قَالَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ... ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)) [2]
وتوبة الصادقين ليست عن ذنوب جنتها أيديهم فقط بل هم يتعاهدونها كلما عرضت لقلوبهم غفلة طلبا لنقائها وحرصا على صفائها ومن ذلك قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي , وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّه فِي الْيَوْم مِائَة مَرَّة) [3] ,وتراهم يتوبون من طاعاتهم يا سبحان الله! أطاعة يتاب منها كيف يحصل ذلك؟ نعم .. لأن طاعتهم لا تليق في نظرهم لمقام ربهم فهم أحقر في نفوسهم من أن يبلغوا كمال مراده فهاهم بعد ليل قضوه سجدا وقياما يستغفرونكأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون)
" فمن عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في استغفارهم و اعتذارهم. صحائف التائبين خدودهم , و مدادهم دموعهم قال بعضهم: إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم" [4] وأشرف أوقاتها عند نزول التواب إلى السماء الدنيا ((ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأجيب دعوته إلى أن ينفجر الفجر)) [5]
"نحن الذين إذا أتانا سائل ... نوليه إحسانا و حسن تكرم
و نقول في الأسحار هل من تائب ... مستغفر لينال خير المغنم
كان بعض الصالحين يقوم الليل فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته يا أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون ألا تقومون فترحلون فإذا سمع الناس صوته و ثبوا من فرشهم فيسمع من هنا باك , و من هنا داع, و من هنا تال , و من هنا متوضىء فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى
يا نفس قومي فقد نام الورى ... إن تصنعي الخير فذو العرش يرى
و أنت يا عين دعي عنك الكرى ... عند الصباح يحمد القوم السرى" [6]
قال الأحنف بن قيس: عرضت نفسي على القرآن فلم أجدني بآية أشبه مني بهذه الآية (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) [7]
ومن صدقت توبته عظمت عند الله محبته (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) وكان ساعة إذ من المفلحين (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ (67)) ونال دعوات المقربين من الملائكة وحملة العرش (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
¥