تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الوجه الثامن عشر:أنه ليس في حكمة أحكم الحاكمين أن يخلق خلقا يعذبهم أبد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له و لا انقطاع أبدا و قد دلت الأدلة السمعية و العقلية و الفطرية على انه سبحانه و تعالى حكيم و أنه احكم الحاكمين فإذا عذب خلقه عذبهم بحكمة كما يوجد التعذيب و العقوبة في الدنيا في شرعه و قدره فإن فيه من الحكم و المصالح و تطهير العبد ومداواته و إخراج المواد الردية عنه بتلك الآلام ما تشهده العقول الصحيحة و في ذلك من تزكية النفوس و صلاحها و زجرها و ردع نظائرها و توقيفها على فقرها و ضرورتها الى ربها و غير ذلك من الحكم و الغايات الحميدة ما لا يعلمه إلا الله و لا ريب إن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب و لهذا يحاسبون إذا قطعوا الصراط على قنطرة بين الجنة و النار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا ذهبوا و نفوا أذن لهم في دخول الجنة و معلوم إن النفوس الشريرة الخبيثة المظلمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه لا يصلح إن تسكن دار السلام في جوار رب العالمين فإذا عذبوا في النار عذابا تخلص نفوسهم من ذلك الخبث و الوسخ و الدرن كان ذلك من حكمة أحكم الحاكمين و رحمته و لا يتنافى الحكمة خلق نفوس فيها شر يزول بالبلاء الطويل و النار كما يزول بها خبث الذهب و الفضة و الحديد فهذا معقول في الحكمة و هو من لوازم العالم المخلوق على هذه الصفة أما خلق نفوس لا يزول شرها أبدا و عذابها لا انتهاء له فلا يظهر في الحكمة و الرحمة و في وجود مثل هذا النوع نزاع بين العقلاء أعنى ذواتا هي شر من كل وجه ليس فيها شيء من خير أصلا و على تقدير دخوله في الوجود فالرب تبارك و تعالى قادر على قلب الأعيان و إحالتها و إحالة صفاتها فإذا وجدت الحكمة المطلوبة من خلق هذه النفوس و الحكمة المطلوبة من تعذيبها فالله سبحانه قادر إن ينشئها نشأة أخرى غير تلك النشأة و يرحمها في النشأة الثانية نوعا آخر من الرحمة يوضحه.

الوجه التاسع عشر: و هو أنه قد ثبت إن الله سبحانه و تعالى ينشئ للجنة خلقا آخر يسكنهم إياها و لم يعملوا خيرا قط تكون الجنة جزاء لهم عليه فإذا أخذ العذاب من هذه النفوس مأخذه و بلغت العقوبة مبلغها فانكسرت تلك النفوس و خضعت و ذلت و اعترفت لربها و فاطرها بالحمد و أنه عدل فيها كل العدل و إنها في هذه الحال كانت في تخفيف منه و لو شاء إن يكون عذابهم اشد من ذلك لفعل و شاء كتب العقوبة طلبا لموافقة رضاه و محبته و علم إن العذاب أولى بها و أنه لا يليق بها سواه و لا تصلح إلا له فذابت منها تلك الخبائث كلها و تلاشت و تبدلت بذل و انكسار و حمد و ثناء الرب تبارك و تعالى لم يكن في حكمته إن يستمر بها في العذاب بعد ذلك إذ قد تبدل شرها بخيرها و شركها بتوحيدها و كبرها بخضوعها و ذلها و لا ينتقض هذا بقول الله عز و جل و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فإن هذا قبل مباشرة العذاب الذي يزيل تلك الخبائث و إنما هو عند المعاينة قبل الدخول فإنه سبحانه و تعالى قال {و لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون} فهذا إنما قالوه قبل إن يستخرج العذاب منهم تلك الخبائث فأما إذا لبثوا في العذاب أحقابا و الحقب كما رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي امامة رضي الله عنه عن النبي انه قال الحقب خمسون ألف سنة فانه من الممتع أن يبقى ذا الكبر و الشرك و الخبث بعد هذه المدد المتطاولة في العذاب ....

الوجه الرابع و العشرون إن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار من الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة و الغضب و لولا ذلك لما عمرت و لا قام لها وجود كما قال تعالى {و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا} {ما ترك عليها من دابة} فلولا سعة رحمته و مغفرته و عفوه لما قام العالم و مع هذا فالذي أظهره من الرحمة في هذه الدار وأنزله بين الخلائق جزء من مائة جزء من الرحمة فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار و نالت البر و الفاجر و المؤمن و الكافر مع قيام مقتضى العقوبة به و مباشرته له و تمكنه من إغضاب ربه و السعي في مساخطته فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة على ما في هذه الدار تسعة و تسعين

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير