ثم قال: فلا تشغل -رحمك الله- بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم؛ فأنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه ويفارقه، فكل بكل معارض، وبعضهم ببعض مقابل.
قال: وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من الثبات والحذق في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم [ ... ] تقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق [ ... ] وه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يقوم به حق [ ... ] به حجة.
وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين، كلاهما باطل، ويكون الحق في ثالث غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبة غير مصحح مذهبه، وإن كان مفسداً به قول خصمه؛ لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيهِ، كقول الشاعر:
حجج تهافتت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكلٌ واهن مكسور
ومتى كان الأمر كذلك، فإن أحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي نصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]، فأخبر تعالى أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده، وهو من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة؛ لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل.
وذكر بقية الرسالة، وهي حسنة متضمنة لفوائد جليلة، وإنما ذكرنا هذا القدر منها ليتبين به أن القواعد العقلية التي يدعي أهلها أنها قطعيات لا تقبل الاحتمال، فترد لأجلها -بزعمهم -نصوص الكتاب والسنة، وتصرف عن مدلولاتها، إنما هي عند الراسخين شبهات جهليات، لا تساوي سماعها، ولا قراءتها، فضلا عن أن يرد لأجلها ما جاء عن الله ورسوله، أو يحرف شيء من ذلك عن مواضعه.
وإنما القطعيات ما جاء عن الله ورسوله من الآيات المحكمات البينات، والنصوص الواضحات، فترد إليها المتشبهات، وجميع كتب الله المنزلة متفقة على معنى واحد، وإن ما فيها محكمات ومتشابهات، فالراسخون في العلم يؤمنون بذلك كله، ويردون المتشابهة إلى المحكم، ويكلون ما أشكل عليهم فهمه إلى عالمه، والذين في قلوبهم ريع يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويردون المحكم، ويتمسكون بالمتشابه ابتغاء الفتنة، ويحرفون المحكم عن مواضعه، ويعتمدون على شبهات وخيالات لا حقيقة لها، بل هي من وسواس الشيطان وخيالاته، يقذفها في القلوب.
فأهل العلم وإلايمان يمتثلون في هذه الشبهات ما أمروا به من الاستعاذة بالله، والانتهاء عما ألقاه الشيطان، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك من علامات الأيمان، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمة لها في نفسها، وليس لها معنىً يصح، فيجعلون تلك الألفاظ محكمة لا تقبل التأويل، فيردون كلام الله ورسوله إليها، ويعرضونه عليها، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها.
هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض.
وأما السلف وأئمة أهل الحديث، فعلى الطريقة الأولى، وهي الأيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أثبته له، مع نفي التمثيل والكيفية عنه، كما قاله ربيعة ومالك وغيرهما من أئمة الهدى في الاستواء، وروي عن أم سلمة أم المؤمنين، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول، وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق.
وينظر كذلك
173 - ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف
عبد الله بن سليمان الغفيلي
دار المسير
2 مجلد
الطبعة الأولى
1418 هـ - 1998 م
870 صفحة
أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة من الجامعة الإسلامية
الحجم: 13 ميجا
صفحة الكتاب:
http://www.archive.org/details/irhatasirhatas
رابط مباشر:
¥