ولو فرضنا أن النص موجود في الاختيارات الفقهية , فإنه لا بد أن ندرك أن البعلي لا ينقل نص ابن تيمية دائما بل يتصرف فيه كثيرا , وقد سألت بعض المختصين في كلام ابن تيمية فيما ينقله البعلي من اختيارات عن ابن تيمية (وهو الشيخ /محمد عزير شمس) فذكر أن البعلي لم يلتزم لفظ ابن تيمية , بل ذكر أنه لم يلتزم نقل الاختيارات من كتب ابن تيمية , وإنما نقل قدرا منها من كتب تلاميذه.
وهذا يوجب التوقف في النص لو وجد أصلا , كيف وهو لم يوجد!.
ومما يدل على وقوع الخطأ في هذا النقل أن الشيخ عبد اللطيف نفسه نقل عن ابن تيمية فتواه هذه في موطن آخر فلم يذكر الارتداد , وإنما ذكر القتل وهذا نص كلامه:" وقد أفتى شيخ الإسلام، رحمه الله، بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان، إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بحل دم من جمز إلى معسكر التتار، وكثر سوادهم، وأخذ ماله؛ وكل هذا من التعازير، التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة، وحصول المصلحة. وأفتى في التعزير بأخذ المال إذا كان فيه مصلحة" ([20]).
ومما يدل على خطأ هذا الكلام أن ابن تيمية قد نقلت لها فتاواه في التتر ولم تذكر فيها تلك العبارة , إنما ذكرت عبارات أخرى ليس فيها إثبات الارتداد.
وهذا كله يدل على أن هذا النص لم يضبط فيه لفظ ابن تيمية رحمه الله , وعليه فلا يصح الاعتماد على مثله.
6 - ومن ذلك قوله فيمن قفز إلى عسكر التتار:" فَمَنْ قَفَزَ عَنْهُمْ إلَى التَّتَارِ كَانَ أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّتَارِ؛ فَإِنَّ التَّتَارَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ , وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ " ([21]).
7 - ومن ذلك قوله:"وَكُلُّ مَنْ قَفَزَ إلَيْهِمْ - يعني التتار - مِنْ أُمَرَاءِ الْعَسْكَرِ وَغَيْرُ الْأُمَرَاءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ وَفِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا ارْتَدَّ عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ قَدْ سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ مُرْتَدِّينَ - مَعَ كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ. وَيُصَلُّونَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ - فَكَيْفَ بِمَنْ صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُعَادُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِ شَرَائِعِهِ. أَمَّا الطَّائِفَةُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَنَحْوِهِمَا فَهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ دُخُولًا فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ([22]).
والكلام على هذين القولين من وجوه:
1 - أن الحكم بالقتل أو بالقتال ليس دليلا على الكفر , فكون ابن تيمية يحكم على من قفز إلى التتر بالقتل أو بالقتال لا يعني أنه يحكم بكفره , لأنه ليس كل مسلم حكم بقتله أو بقتاله يكون كافرا , بل قد يكون ذلك من باب التعزير كما هو معلوم , وهذا ما فهمه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن كما سبق نقل كلامه.
2 - أن غاية ما يدل عليه كلام ابن تيمية هذا هو أن بعض المسلمين قد ارتد وانحاز إلى التتر , وهذا ليس محل البحث , وإنما محل البحث هو تحرير سبب ارتدادهم , وابن تيمية لم يبن لنا في هذا النص السبب الذي ارتدوا بفعله , وإنما ذكر حوادث للارتداد , ونحن لا ننكر أن بعض المسلمين قد ارتد فذهب إلى معسكر التتر , قد ذكر أصحاب التواريخ أن بعض أمراء من المسلمين قد هرب إلى معسكر التتر , وتزوج بعضهم بنت هولاكو.
والمقصود هنا أن ابن تيمية لم يذكر في كلامه السابق أن سبب ارتدادهم هو كونهم والوا التتر , فكيف يصح لنا أن نقول إنه إنما حكم بارتداد من ارتد لأنه والى التتر موالاة علمية , فأين ما يدل على هذا من كلام ابن تيمية؟!.
3 - أن النص الثاني فيه تقييد الردة بكونها عن بعض شرائع الإسلام , وهذا التقييد لا يلزم منه الحكم بالكفر الأكبر.
فتحصل لنا مما سبق أن من نسب القول بأن الموالاة العلمية للكفار كفر أكبر إلى ابن تيمية ليس مصيباً , وأن ما اعتمد عليه من كلام ابن تيمية لا يدل على ما ذكر.
والله أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_____
([1]) الفتاوى (9/ 248).
([2]) الفاوى (13/ 215).
([3]) الفتاوى (28/ 240).
([4]) الفتاوى (28/ 509).
([5]) الفتاوى (28/ 519).
([6]) الفتاوى (28/ 535).
([7]) الفتاوى (28/ 552).
([8]) الفتاوى (7/ 552).
([9]) الصارم المسلول (2/ 372).
([10]) الفتاوى (7/ 490).
([11]) الفتاوى (4/ 460).
([12]) الفتاوى (20/ 33).
([13]) الفتاوى (18/ 300).
([14]) الفتاوى (7/ 194).
([15]) الفتاوى (7/ 16).
([16]) افتضاء الصراط المستقيم (1/ 222).
([17]) الفتاوى (28/ 192).
([18]) الفتاوى (8/ 367) واقتضاء الصراط (1/ 172).
([19]) الدرر السنية (8/ 338).
([20]) الدرر السنية (8/ 317).
([21]) الفتاوى (28/ 534).
([22]) الفتاوى (28/ 530).
¥