تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فيقال: وهذا الحديث أيضاً خارج عن محل النزاع ونحن نقول بموجبه، فالمؤمن الموقن بالنبي r في الجنة، والمنافق المرتاب إذا مات على مرضه وشكه فهو في النار، وليس في الحديث سوى ذلك، ولم يأت فيه ذكر لصاحب البراهين والاستدلالات، ولا للمقلد من المؤمنين الذي لم يستدل ولم يبرهن. فبطل تعلقهم بهذا الحديث وبسائر نصوص الكتاب والسنة جملةً؛ وما كان ذلك إلا لأن قولهم هذا هو بدعة محدثة لم يأمر بها الله جل وعلا ولا نبيه r ولا أحد من أصحابه الكرام ولا من تبعهم من الأئمة، فتفردوا عن كل هؤلاء الأخيار بهذه البدعة الشنعاء ذات اللوازم الباطلة.

ثم إنهم اختلفوا في حد الوقت الذي يجب على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد أن يستدل بالنظر والعقل على وجود الله وتوحيده، فمن قائل أنه يجب عليه قبل البلوغ حتى يبلغ وهو مسلم عارف بربه، وهذا معلوم بطلانه باتفاق المسلمين، إذ تقرر عند جميعهم أن التكليف والخطاب الشرعي مرفوع عن الصبي حتى يبلغ، وقد قال النبي r: ( رفع القلم عن ثلاثة:-وذكر -عن الصبي حتى يحتلم). رواه أبو داود وغيره من حديث علي بن أبي طالب وعائشة.

وقال بعضهم: بل يجب عليه النظر عند البلوغ، وهذا هو قول جمهور الأشاعرة والمتكلمين.

فيقال لهم: هذا النظر والاستدلال الذي أوجبتموه على المسلمين، هل أوجبه النبي r على أمته؟!

فإن قالوا: نعم! فقد افتروا فرية لا تخفى على أحد من العالم عرف سيرة النبي r، إذ اتفق المسلمون واليهود والنصارى والمجوس وكل من علم سيرة النبي r أنه لم يقل مرة لأحد أسلم: (لا أقبل إسلامك حتى تبرهن وتثبت لي ما أدعوه إليك)، فرسول الله r لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهذا الاستدلال، لا عامة الخلق ولا خاصتهم، فامتنع بالضرورة أن يكون هذا شرطاً في الإيمان والعلم، وقد شهد القرآن والرسول r لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم، وأنهم عالمون بصدق الرسول r، وبما جاء به، وعالمون بالله، وبأنه لا إله إلا الله، ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الاستدلال والنظر والبراهين، كما قال تعالى:] ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد وقال:] شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط وقد وصف المؤمنين باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله تعالى:] وبالآخرة هم يوقنون وقوله:] أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقوله:] قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني [، ونحو ذلك من النصوص المستفيضة في هذا المعنى. فتبين بهذا أن النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء المتكلمون وجعلوه أصلاً للدين وشرطاً في الإيمان ليس مما أوجبه الله ورسوله ولا أحد من الأنبياء، ولو قدر أن هذه الصنعة صحيحة في حد ذاتها، وأن الرسول أخبر بصحتها، لم يلزم من ذلك وجوبها، إذ قد يكون للمطلوب والمبرهن عليه أدلة كثيرة، وهذا لا يخفى على من اشتغل في علوم البرهان والإثبات، فقد يوجد للمطلوب والنتيجة الواحدة عدة براهين واستدلالات، ولهذا طعن الفخر الرازي وأمثاله على أبي المعالي الجويني في قوله: إنه لا يعلم حدوث العالم إلا بهذا المسلك والطريق، فحصر العلم بحدوث العالم إلا بهذا النظر، فأخذ الفخر الرازي وغيره من المتكلمين يحتملون احتمالات في إمكانية وجود دليل آخر على حدوث العالم غير الذي ذكره أبو المعالي، وسلكوا طرقاً أخر في ذلك، فالمقصود أنه لو كان طريق الاستدلال صحيحاً عقلاً، وقد شهد له رسول الله r والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنه طريق صحيح في إثبات التوحيد، لم يجز القول بوجوبه وتعينه إذ يمكن سلوك طرق أخرى غيره في الإثبات، كما أنه في القرآن الكريم سور وآيات، قد ثبت بالنص والإجماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى واليقين والبصيرة، ومع هذا فإذا اهتدى الرجل بغيرها، وقام بالواجب ومات، ولم يعلم بها، ولم يتمكن من سماعها، لم يضره ذلك، كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي r قبل أن ينزل سائر القرآن، والله المستعان.

ولو سُلِّم لهؤلاء المتكلمين أن هذا النظر والاستدلال مما أوجبه الشرع على العباد، فإنه يعترض عليهم أن الغالب على عوام المسلمين وكبارهم أنهم لا يحسنون النظر في الوجود ولا يفهمون كيفية الاستدلال على التوحيد، فكيف الحال بصبيتهم إذا بلغوا؟!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير