تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإن قالوا: بل يجب عليهم جميعاً أن يطلبوا فن الاستدلال وعلم الكلام حتى يكونوا على بصيرة من ربهم ودينهم.

يقال لهم: فإذا عدم من يعلم هذا العلم، مع أنه لم يظهر في المسلمين ويستفحل أمره إلا في أزمنتهم المتأخرة، وقليل من يتقنه منهم، فكيف يكون حال من لم يعرف الله بالاستدلال عند عدم علم الكلام أو لم يجد من يعلمه إياه؟!

فإن قالوا: هو مؤمن إذاً، نقضوا أصلهم حيث كفّروا أو فسّقوا من لم يستدل، وإن قالوا: هو كافر أو فاسق، فهو قول فاسد، إذ يلزم منه أن يكفروا أو يفسقوا جمهور هذه الأمة المرحومة سلفها وكثير من خلفها، حيث لم يتعلموا مثل هذه الصناعة، وإنما ظهرت في عصورهم المتأخرة عند أفراد منهم.

ثم يقال لهم: هل استدل أحد من مخالفيكم في مقالاتكم التي تدينون بها أم لم يستدل قط أحد غيركم؟ فلا جواب لهم إلا إقرارهم بأن مخالفيهم أيضاً قد استدلوا.

فيقال لهم: وهم عندكم مخطئون كما أنتم عندهم مخطئون، وأنتم باعتبارهم وهم باعتباركم كمن لم يستدل أصلاً!! فيلزم من هذا أنكم كفار أو فساق عندهم وهم كذلك عندكم!!

فإن قالوا: إن الأدلة سلمتنا من الخطأ!!

يقال لهم: وهذا نفسه هو قول خصومكم، فإنهم يدعون أن أدلتهم على صحة قولهم وبطلان قولكم، فتبين بهذا أن لم تحصلوا من استدلالاتكم وبراهينكم إلا على ما حصل عليه من لم يستدل أصلاً سواء بسواء ولا فرق، إذ أن أدلتكم ليست ملزمة وهي منتقضة بمثلها.

فإن قالوا: فعلى قولكم هذا، يبطل منهج الاستدلال جملة، وعلم الكلام كافة!!

يقال: نعم! فكان ماذا؟ ولهذا علم أكابر أهل العلم من السلف والخلف أن طريقة الاستدلال والنظر طريقة باطلة في نفسها مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وأنه لا يحصل بها العلم بالصانع ولا بغير ذلك، بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب مخالفة كثير مما جاء به النبي r مع مخالفة صريح المعقول، كما أصاب من سلكها من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والأشعرية والماتريدية ومن تبعهم من الطوائف، وإن لم يعرفوا غورها وحقيقتها، فإن أئمة هؤلاء الطوائف الكلامية، صار كل منهم يلتزم ما يراه لازماً ليطرده فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل، فيجيء الآخر فيرد عليه، ويبين فساد ما التزمه، ويلتزم هو لوازم أخر لطردها، فيقع أيضاً في مخالفة الشرع والعقل.

فيتضح بهذا لكل ذي عقل أن مقالتهم هذه مما لم ينزل الله بها من سلطان، وأنها تخبط وتخليط يلزم منها لوازم باطلة من ذلك: تكفير أو تفسيق عموم المسلمين إذ أنهم لا يحسنون علم الكلام لتعقيده وسفسطته، ويلزم منها أيضاً أنه يجب على البالغ العاقل أن يشك في وجود الله حتى يستدل على وجوده، وأن يشك في نبوة محمد r حتى يبرهن على نبوته، وهكذا. ولولا أن لازم المذهب ليس بمذهب على التحقيق، لكان جمهور المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم قد سقطوا في الكفر البواح المخرج من الملة والعياذ بالله، إذ كيف يجوز أن يقال أنه لا يتم إيمان عبد حتى يشك في الله وفي وجوده ووحدانيته ونبوة أنبيائه ورسله ويبرهن على صحة وجود كل ذلك وثبوته؟! وإن جزم على اعتقاد الإسلام والإيمان دون استدلال وإثبات، فهو كافر حلال الدم والمال خالد في النار إن مات أو فاسق يستحق العذاب والعقاب!!

فمثل هذا الاختلاط والتناقض قد أدى كثيراً من فحول المتكلمين ورؤسائهم إلى الحيرة والتيه، حتى عرف عن كثير منهم ندمهم على ما صدر منهم، وتراجعهم عن مقالاتهم الهزيلة.

فهذا أبو حامد الغزالي مع تمكنه في علم الكلام قد ألف كتباً في ذمه وذم أهله، وأعرض عن تلك الطرق الكلامية في آخر حياته واشتغل بأحاديث النبي r، فمات وصحيح البخاري على صدره، والقاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد الفيلسوف يقول:"ومن قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟ "، ويقول الفخر الرازي أحد أقطاب هذه الصنعة:

نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير