فقال له الناصح: يا أخي! وأزيدك بيانا عما ذكرت لك أن هذه المظاهر الذي تراها من الكفار قد نبهنا الله عليها في كتابه، وأخبر عنها وحذرنا أن نغتر بها،قال تعالى: ((لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)) فهذا الاغترار مصيدة لهم وللجاهلين بأحوالهم، وقد أرانا الله من أيامه ووقائعه فيهم ما فيه عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين. والحمد لله رب العالمين.
فائدة رقم /138
صفحة/237
في كتابه:مجموع الفوائد واقتناص الأوابد.
اعتنى به: الشيخ / سعد الصّميل -حفظه الله -.
تقديم: الشيخ /عبد الله البسام -رحمة الله عليه -.
طبعة دار ابن الجوزي
فائدة (138)
(محاورة بين مؤمن وملحد)
جرت صورة محاورة بين مؤمن وملحد ,
فقال المؤمن للملحد: يجب علينا أن نتفاهم ويخبر كل منا عن عقيدته وغايتها والسبب الذي أداه إليها والأدلة التي تؤيدها والإشكالات التي ترد عليها.
فقال الآخر: لا بأس , هذا هو اللازم على من يريد الوقوف على الحقائق وإتباعها , ويريد الإنصاف , وهذه الطريقة العلمية التي اتفق عليها جميع العقلاء , ودعني أبين لك معتقدي والأسباب التي أدتني إليه والغايات التي أريدها بأعمالي.
فقال: هات ما عندك.
فقال الملحد: أما معتقدي؛ فاني اعتقد بوجود جميع المحسوسات التي ينالها الحس وتدرك بالحواس، واعترف بها، واتبع النافع منها , وما سوى ذلك؛ فاني لا اعترف به، بل أنكره غاية الإنكار؛ فلا اعترف بالخالق ووجدانيته، فضلا عن اعترافي بالوحي والرسل والمعاد، فكلها حيث لم يدركها حسي ولم تدخل تحت معلوماتي، كيف اعترف بها وقد اقتديت في هذا السبيل بكثير من فلاسفة العلم الموجودين والمفقودين؛ فلي فيهم أسوة ,و أما غايتي في هذا؛ فأريد الراحة التامة في هذه الحياة التي لا حياة بعدها، والانطلاق وراء مختارات النفوس وأغراضها , وعدم التقيد الذي هو غل للقلب وللجوارح؛ فقصدي أن تكون أعمالي كلها حرة وشهواتي كلها حاصلة، والأديان تمنع من هذا، وتجعل الإنسان في حبس، وتغل أعماله، وتشل حركاته كما ذكره علماؤنا وقدوتنا في هذا السبيل , وأما برهاني على ذلك؛ فكما ذكرت لك أن هذا الرأي عليه أكابر فلاسفة العالم وأساطين العلماء ما هم نعم القدوة لي ولأمثالي، وبرهان ذلك ما تشاهد من مخترعاتهم وإبداعهم في الحياة وسيطرتهم على العالم بفضل علمهم ونتائج أفكارهم، وترى أهل الدين بعكس هذه الحال، ليس لهم تقدم في الحياة ولا رقي وإنتاج لهذه المخترعات، فهذه عقيدتي ألقيتها إليك صريحة موضحة بحقيقتها وبراهينها؛ فهات ما عندك.
فقال الموحد المؤمن: أما عقيدتي؛ فاني إذا شرحتها وأبديتها عرفت وعرف غيرك أن الحق والمنافع التي ذكرتها أنت في عقيدتك تدخل في ضمنها وتحتضن جميع الحقائق الصادقة , وتنبذ ما في عقيدتك من الشر والضرر الآجل، بل والعاجل , أما أنا؛ فأؤمن بالرب العظيم الذي تضاءلت عظمة الموجودات كلها عند عظمته، وصغرت العوالم كلها عند كبريائه وقدرته وواسع علمه وحكمته وعميم رحمته , أشهد انه الرب الذي أوجد العالم العلوي والسفلي وأبدعه على غير مثال سبق، بل في غاية الإحكام والانتظام الذي عجزت مدارك العلماء الأولين منهم والآخرين عن إدراك بعض حكم مخلوقاته ومعقولات الذي له التصرف المطلق والحكم المطلق , حكم بتدبيره؛ فدبر المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، وهداها إلى مصالحها المتنوعة، ولم يخلقها سدى وعبثا , بل خلق, ها بالحق وللحق، فحكم على المكلفين بشرعه، فأرسل إليهم الرسل الذين هم اجمع الناس لكل خلق جميل ووصف حميد، وأعلاهم علوما وعقولا , وأكملهم في جميع صفات الكمال، وأنزل عليهم الكتب المحكمة الممتعة محتوية على شرائعه الكاملة , وضح الله فيها لعباده أصدق الأخبار وأصدق العقائد وأنفع الأحكام ,وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا , فيها تبيان لكل شيء يحتاجه العباد في معاشهم ومعادهم في دينهم ودنياهم، لم يبق خيرا إلا أمر به وبين طرقه، ولا شرا إلا حذر عنه وعن سلوك سبيله بكل الطرق، فجميع المنافع الدينية والدنيوية قد اشمل عليها دين الإسلام الذي هو دين جميع الرسل وأتباعهم؛ فخلق الله الخلق لعبادته ومعرفته وسلوك كل طريق فيه مرضاة الله وفيه سعادة العبد ونجاته، وأدر عليهم الأرزاق
¥