تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ليستعينوا بها على هذا المقصد الأعظم ليتوسلوا بذلك إلى تمام نعمته ونيل كرامته في دار الخلود؛ فالدنيا كلها من أولها إلى آخرها بالنسبة إلى تلك الدار لا نسبة لها بوجه من الوجه؛ فلهذا أَنِِِسَت بهذا الرب العظيم المدبر للعوالم كلها الذي وسعت رحمته كل شيء وشمل بوجوده البر والفاجر , ولم يخل مخلوق من إحسانه طرفة عين , وتيقنت أن للعباد دارا غير هذا الدار يجازون فيها بأعمالهم التي عملوها في هذه الدار، فغايتي من عقيدتي السعادة العاجلة والسعادة الآجلة والفوز الأبدي والنعيم السرمدي , عكس غايتك الحقيرة الدنية الساقطة التافهة، وبرهاني على ذلك أعظم البراهين وأوضحها وأصدقها وأكبرها , برهاني على ذلك أكبر الشهادات كلها، وهي شهادة الله التي أودعها كتبه السماوية وفطر الخليقة عليها إلا من فسدت فطرته بما طرأ عليها من العقائد الفاسدة والآراء الساقطة , وبرهاني على ذلك شهادة الكتب التي أنزلها الله على رسله وخصوصا القران الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل حكيم حميد، الذي أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله في البلاغة والفصاحة والأسلوب البديع والأخبار الصادقة النافعة والأحكام المحكمة العامة الشاملة , وغير ذلك من وجوه إعجازه، وبرهاني على ذلك شهادة أعلى طبقات الخلق وهم الرسل الكرام من أولهم إلى خاتمهم كلهم متفقون على هذا الإيمان بالرب العظم وأقداره وشرائعه وأحكامه القدرية والشرعية والجزائية؛ فهؤلاء الرسل جمع الفلاسفة من ألهم إلى آخرهم لم يبلغوا عشر معشار أعطية واحد من هؤلاء الصفوة الذي تضمحل علوم الفلاسفة إذا نسبت إلى علومهم , ثم بعد ذلك هداة الأنام ومصابيح الظلام وأئمة الهدى في جميع القرون، الذين هم أعلى الناس وأوسعهم علوما وأكملهم عقولا وفضائل وأجمعهم للمحاسن، كلهم على هذا الدين الحق؛ فكيف يفضل ذو عقل على هؤلاء زنادقة الفلاسفة المعروفين بانحراف المعارف والجهل العظيم بالمعارف الإلهية؟! وإن كان لهم معرفة في بعض أمور الطبيعة؛ فهم في الدين والإلهيات من أعظم الجهل وأسفل الضلال، كيف يختار عاقل السير خلف هؤلاء المنحرفين في علومهم ومقاصدهم؟! إن هذا لهو الضلال المبين، وبرهاني على ذلك أيضا النظر في الموجودات والتأمل للمخلوقات؛ فإنها كلها أدلة وبراهين على مبدعها وخالقها وعلى كمال علمه وقدرته وشمول رحمته وحكمته، وعلى تفرده بالوحدانية والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعلى صدقه وصدق رسله , وأما ما ذكرته من غايتك؛ فإنها تعبر أحسن تعبير عن غايات البهائم التي لا هم لها إلا ما وافقها من الأكل والشرب وتوابعه , فالغاية التي شرحته عن نفسك هي الفوضى بعينها , وهي إعطاء النفوس مناها ضر أو نفع، وعدم تقيدها بالأحكام الشرعية , فإن الأحكام الشرعية في إباحتها وتحريمها وفي إطلاقها ومنعها هي الغاية الكاملة في صلاح الخلق؛ فإنها أباحت كل طيب نافع للعباد من مأكل ومشارب وملابس ومناكح وغيرها، ووسعت للعباد في ذلك غاية التوسيع، ونهت عن كل خبيث ضار للعباد،فهي الغذاء للعباد، وهي الدواء والشفاء، نهتهم عن انطلاق النفوس في أغراضها الخسيسة التي تعود بضررها وضرر أبناء جنسها الضرر العاجل والآجل , ومن محاسنها أنها ما نهت عن شر تشتهيه النفوس إلا جعلت للعباد من المباحات ما يغني عن ذلك، وتتبع ذلك في كل الأمور؛ فإنها أغنت العباد بالحلال عن الحرام وبالنافع عن الضار، فهذه القيود التي قيدت المكلفين ما أعظم الأدلة على حقها وخيرها وأنها حوت من المحاسن ما لا يحيط به الوصف، وأما ما ذكرت من المخترعات والصناعات؛ فليست متأثرة عن الإلحاد والزندقة، إنما تأثرت عن العلوم الصناعية وكون كثير من أهلها عقيدتهم إلحادية , ليس للعقيدة فيها أثر بوجه من الوجوه، بل الدين الإسلامي يأمر ويحث على جميع الصناعات النافعة الكبيرة والصغيرة , فاذا فرض تقصير اهله عن مجارات الأمم الأخرى في هذا؛ لم يضر الدين شيئا , وهذه شبهة لا يزال دعاة الإلحاد يبدونها ويذكرون تقصير المسلمين عن مجارات الأمم في هذا المضمار، وهم لم ينصفوا في هذا، فلو أنصفوا لعرفوا أن دين الإسلام أعظم ما يحث على كل الأمور النافعة الدينية والدنيوية , ولكن الأعداء يتشبثون بكل شبة، ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا , والواجب أن تنظر إلى المسلمين في حال قيامهم بالدين، وكيف كانوا هم سادة الأمم وقد خضعت لهم أقوى دول الأرض حينما كانوا قائمين بدينهم حق القيام، فمن استدل بحالة المسلمين الحاضرة على القدح في دينهم؛ فهو ظالم مفترٍ، قصده التلبيس والتغرير، وإن أردت زيادة البيان لهذا الأمر؛ فانظر إلى ما دعا إليه الدين في أصوله وفروعه أصلا أصلا , وشريعة شريعة تجدها كلها غاية الإحكام والحسن والحث على كل فعل جميل وكمال إنساني ورقي روحي ومادي , وجمع بين مصالح الدين والدنيا لا يقوم غيرها مقامها في إصلاح الأمور كلها وما سواها من النظم؛ فهي وإن نفعت من وجه ضرت من وجوه أخر، وشرها أكثر من نفعها، وإن العلماء المحققين العارفين لحقيقة النظم الإسلامية والنظم الأخرى ونتائجها وثمراتها ليتحدون جميع الطوائف المنحرفين عن الدين ويبرهنون على ذلك ببراهين عقلية وواقعية , وإني بصفتي واعترافي بقصوري أتحداك أيها الرجل الذي فضل الإلحاد على دين رب العباد وأتحدى غيرك أن يأتوا بمثال واحد فاقت النظم الإلحادية على النظام الإسلامي، ولن يستطيعوا إلا بالمكابرة التي يسقط معها الكلام؛ فهات ما عندك من الانتقادات.

فلم يتمكن الملحد من الجواب هذا السؤال، وبقي إما أن يبقى على إلحاده بعد ما تبين له الحق ويصير مكابرا ينكر ما لا ينكر، أو ينقاد للحق ويتبع طريق الإنصاف الذي تبين ووضح كل الوضوح.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير