إذا تقرَّر هذا كلُّه فاعلم أنَّ أصول مقالة المثلِّثة من النصارى في رب العالمين تخالف هذا كله أشد المخالفة وتباينه أعظم المباينة، لمَّا تمسَّكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الألفاظ، وأخذوا بأقوال من ضلُّوا من قبل، وأضلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواء السبيل،فوقعت في الضِّدِّ من جميع تلك الشروط العقلية الفطرية التي لا يكاد يختلف عليها كلُّ من تأمَّل وأنصف ورجع إلى صوت الحق وداعي الإيمان.
ـ إذ انفردت النصرانية المحرفة بالجرأة على مقام الله عزوجل فأبطلت التوحيد، ونادت بالتثليث المنافي للفطرة.
و لم يكتفِ سدنة النصرانية المحرَّفة "ورثة بولس و قسطنطين" بتشبيه الخالق بالمخلوق فقط:
1ـ بل جمعوا بين اللاهوت و الناسوت في شخص المسيح عليه السلام إذ ادَّعَوا أنَّ اللاهوت حلَّ في الناسوت بمعنى أنَّ الخالق عزَّو جلَّ حلَّ في المخلوق ـ سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علُواًّ عظيماً ـ.
2ـ بل و ادَّعوا امتزاج اللاهوت بالناسوت، {وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} سورة الزمر - آية 67.
3ـ بل ـ و أعظم من ذلك ـ أنهم ادَّعوا صلب البشر لهذا الإله.
4ـ بل و التعدِّي عليه و إهانته.
و مع تنزيه القرآن المطلق لمقام ربوبية الله تعالى،فإنَّه ـ أيضاً ـ ينزِّه شخص المسيح عليه السلام عن ذلك، و يروي لنا أن الصلب و الإهانة إنما وقعت على يهوذا الاسخريوطي الذي وقع عليه شبَهُ عيسى عليه السلام.
يقول الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 158) ? النساء:157 - 158.
و تصديق ذلك من انجيل برنابا ما ورد فيه ـ في الفصل السابع عشر بعد المائتين ـ:
(فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه ساخرين منه , لأنه أنكر وهو صادق أنه هو يسوع , فقال الجنود مستهزئين به: يا سيدي لا تخف لأننا قد أتينا لنجعلك ملكا على إسرائيل , وإنما أوثقناك لأننا نعلم انك ترفض المملكة , أجاب يهوذا:لعلكم جننتم , إنكم أتيتم بسلاح ومصابيح لتأخذوا يسوع الناصري كأنه لص أفتوثقونني أنا الذي أرشدتكم لتجعلوني ملكا!، حينئذ خان الجنود صبرهم وشرعوا يمتهنون يهوذا بضربات ورفسات وقادوه بحنق إلى أورشليم، وتبع يوحنا وبطرس الجنود عن بعد، وأكدا للذي يكتب أنهما شاهدا كل التحري الذي تحراه بشأن يهوذا رئيس الكهنة ومجلس الفريسيين الذين اجتمعوا ليقتلوا يسوع، فتكلم من ثمّ يهوذا كلمات جنون كثيرة، حتى أن كل واحد أغرق في الضحك معتقدا أنه بالحقيقة يسوع وأنه يتظاهر بالجنون خوفا من الموت، لذلك عصب الكتبة عينيه بعصابة، وقالوا له مستهزئين: يا يسوع نبي الناصريين (فإنهم هكذا كانوا يدعون المؤمنين بيسوع) قل لنا من ضربك، ولطموه وبصقوا في وجهه)) ..... أهـ
و لا يمكن اتهام المسلمين بتلفيق انجيل برنابا فإن هذا الانجيل إنَّما خرج من حوزة الكنيسة، لا من ديار المسلمين، يقول المستشرق الشهير سايل:
(إن مكتشف النسخة الإيطالية لإنجيل برنابا هو راهب لاتيني يسمى "فرا مربنو").
ومن جملة ما قال:
(إن هذا الراهب عثر على رسائل لأحد القساوسة وفي عدادها رسالة تندد بالقديس بولس، وأن هذا القسيس أسند تنديده إلى إنجيل القديس برنابا، فأصبح الراهب المشار إليه من ذلك الحين شديد الشغف بالعثور على هذا الإنجيل، واتفق أنه أصبح حينا من الدهر مقربا من البابا (سكتس الخامس) فحدث يوما أنهما دخلا معا مكتبة البابا فأخذ النوم هذا البابا، فأحب الراهب مرينو أن يقتل الوقت بالمطالعة إلى أن يفيق البابا، فكان الكتاب الأول الذي وضع يده عليه هو إنجيل القديس برنابا نفسه، فكاد أن يطير فرحا من هذا الاكتشاف فخبأ هذا الإنجيل في أحد ردني ثوبه، ولبث إلى أن استفاق البابا فاستأذنه بالإنصراف حاملا ذاك الكنز معه، فلما خلا بنفسه طالعه بشوق عظيم فاعتنق على إثر ذلك الإسلام) اهـ.
¥