وهذا الوجود الكلي إنما يكون كليا في الذهن لا في الخارج؛فإذا كان هذا هو العلم الأعلى عندهم لم يكن الأعلى عندهم علما بشيء موجود في الخارج؛بل علما بأمر مشترك بين جميع الموجودات ,وهو مسمى الوجود ,وذلك كمسمى الشيء والذات والحقيقة والنفس والعين والماهية ونحو ذلك من المعاني العامة ,ومعلوم أن العلم بهذا ليس هو علما بموجود في الخارج لا بالخالق ولا بالمخلوق ,وإنما هو علم بأمر مشترك كلي يشترك فيه الموجودات لا يوجد إلا في الذهن.
وهذا بخلاف العلم الأعلى عند المسلمين فإنه العلم بالله الذي هو في نفسه أعلى من غيره من كل وجه ,والعلم به أعلى العلوم من كل وجه ,والعلم به أصل لكل علم وهم يسلمون أن العلم به إذا حصل على الوجه التام يستلزم العلم بكل موجود.
وهذا بخلاف العلم بمسمى الوجود؛فإن هذا لا حقيقة له في الخارج ولا العلم بالقدر المشترك يستلزم العلم بأجناسه وأنواعه ,وما يتميز به كل شئ بل ليس فيه إلا علم بقدر مشترك لا تصور له في الخارج ,وإنما هو علم بهذه المشتركات.
الرد على المنطقيين (131)
الخامس عشر: أن يقال هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة كما يزعمون؛فما يذكرونه فى العلم الأعلى عندهم الناظر فى الوجود ولواحقه ليس كذلك؛ فإن تصور معنى الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغنى عن الحد عندهم لظهوره؛ فليس هو المطلوب وإنما المطلوب أقسامه ,ونفس أقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث هو أخص من مسمى الوجود ,وليس فى مجرد انقسام الأمر العام فى الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضى علما كليا عظيما عالياعلى تصور الوجود.
فإذا عرفت الأقسام فليس ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغيير والاستحالة وليس معهم دليل أصلا يدلهم أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا وجميع ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك؛فإنما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه لاقدم شىء معين ولا دوام شىء معين؛فالجزم أن مدلول تلك الأدلة هو هذا العالم أو شىء منه جهل محض لا مستند له إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم وعدم العلم ليس علما بالعدم.
ولهذا لم يكن عند القوم إيمان بالغيب الذى أخبرت به الأنبياء فهم لا يؤمنون لا بالله ولا بملائكته ولا البعث كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت ,وإذا قالوا نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن المحسوس وذلك هو الغيب؛فإن هذا وإن كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال؛فإن ما يثبتونه من المعقولات إنما يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة فى الأذهان لا موجودة فى الأعيان.
والرسل أخبرت عما هو موجود فى الخارج وهو أكمل وأعظم وجودا مما نشهده فى الدنيا؛فأين هذا من هذا وهم لما كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل, قالوا إن الرسل قصدوا إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم لينتفعوا بذلك فى العدل الذى أقاموه لهم.
مجموع الفتاوى (9
132) والرد على المنطقيين (138)
السادس عشر: البرهان لا يفيد أمورا كلية واجبة البقاء في الممكنات
قال: إذا كان المطلوب بقياسهم البرهانى معرفة الموجودات الممكنة فتلك ليس فيها ما هو واجب البقاء على حال واحدة أزلا وأبدا بل هى قابلة للتغير والاستحالة ,وما قدر أنه من اللازم لموصوفه فنفس الموصوف ليس واجب البقاء فلا يكون العلم به علما بموجود واجب الوجود ,وليس لهم على أزلية شىء من العالم دليل صحيح كما بسط فى موضعه ,وإنما غاية أدلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة ,وذلك ممكن بوجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدا مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح؛فإن القول بأن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلا وأبدا مما يقضى صريح العقل بامتناعه.أى شىء قدر فاعله لا سيما إذا كان فاعلا باختياره كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التى يذكرهاالمقصرون فى معرفة أصول العلم والدين كالرازي وأمثاله كما بسط فى موضعه ...
¥