ثمَّ إنِّي حَرَصْتُ على أنْ لا أَحْذِفَ من المادَّةِ العلمِيَّةِ المُودَعَةِ في البحثِ شيئاً ولوْ تكَرَّرَتْ؛ لأنَّ هذهِ النصوصَ يُوَضِّحُ بعْضُها بعْضاً، ورُبَّما فَهِمَ القارئُ منْ كلامِ ابنِ القَيِّمِ في موضعٍ ما لمْ يفْهَمْهُ في موضعٍ آخَرَ، ورُبَّما كانَ القارئُ باحثاً في مسألةٍ مُعيَّنَةٍ فَتَعْنيهِ كثرةُ النقولِ، لا سِيَّما وهذهِ المواضيعُ المُهِمَّةُ يُرَسِّخُها في الذهنِ تَكْرَارُها وعَرْضُها بعِدَّةِ أساليبَ * ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=881674&posted=1#_ftn1).
ولمَّا كانَ في النصوصِ المنقولةِ منْ كتبِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللَّهُ تعالى ما ذَكَرْتُ من التفاوتِ اتَّبَعْتُ في تنسيقِها طريقةَ الأصلِ والحواشِي؛ وذلكَ لاعتبارَاتٍ:
الاعتبارُ الأوَّلُ: كثرةُ التَّكرارِ في النصوصِ المنقولةِ منْ كُتُبِ ابنِ القَيِّمِ رحمهُ اللَّهُ تعالى، فبعدَ أنْ صَنَّفْتُ النصوصَ على الأبوابِ والمسائلِ وجَدْتُ فيها تكراراً كثيراً، على اختلافِ درجاتِ التكرارِ:
فبعْضُها يكونُ تكراراً بنفسِ الألفاظِ.
وبعْضُها يكونُ التكرارُ فيها للمعنى على اختلافٍ يسيرٍ في الألفاظِ.
وبعْضُها يكونُ فيها تكرارٌ ظاهرٌ معَ زيادةِ بعْضِها على بعضٍ في المعاني والألفاظِ.
فحَرَصْتُ على اختيارِ أجمعِ هذهِ النصوصِ ليكونَ في الأصْلِ، ثمَّ زِدْتُهُ بإدراجِ ما يُمْكِنُ إدْرَاجُهُ فيهِ من النصوصِ الأُخْرَى.
وما تبَقَّى من النصوصِ رَأَيْتُ أنَّهُ من التَّفْرِيطِ أنْ يُلْغَى ويُهْمَلَ فَجَعَلْتُهُ في الحاشيَةِ لمَنْ أرادَ الاستزادَةَ، ومَن اكتفى بالأصلِ فإنَّهُ لا يَحْتَاجُهُ.
الاعتبارُ الثانِي: تنَوُّعُ تلكَ النصوصِ في تعلُّقِها بالبابِ المُدْرَجَةِ فيهِ:
· فبعْضُها وثيقُ الصلةِ بالبابِ كَقُطْبِ رَحَاهُ.
· وبعْضُها لها تَعَلُّقٌ ما بالبابِ.
· وبعْضُها يجري مَجْرَى التعليقِ والبيانِ لبعضِ النكتِ والفوائدِ المُودَعَةِ في البابِ.
فما كانَ منْ هذهِ النصوصِ وثيقَ الصلةِ بالبابِ جَعَلْتُهُ في الأصْلِ، وأمَّا القسمانِ الآخرانِ فما أمْكَنَ منها أنْ يُجْعَلَ في الأصلِ بحيثُ يَتَنَاسَبُ معَ السياقِ والسباقِ جَعَلْتُهُ في الأصْلِ، وإلاَّ اجْتَهَدْتُ في اختيارِ الموضعِ الذي يَصْلُحُ أنْ يكونَ حاشيَةً لهُ من الأصْلِ.
الاعتبارُ الثالِثُ: اختلافُ أساليبِ الكلامِ لاختلافِ السياقِ:
- فبعضُ النصوصِ منْ كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللَّهُ تعالى يكونُ في مقامِ البيانِ والتفصيلِ لغرضِ التعليمِ والإرشادِ.
- وبعضُها يكونُ في مقامِ الاستطرادِ والاستشهادِ بحيثُ يَعْرِضُ لهُ أثناءَ حديثِهِ عنْ مسألةٍ ما، ولا يكونُ هوَ المقصودَ بالكلامِ.
- وبعْضُها يكونُ في مقامِ الردِّ على المخالفينَ والتشنيعِ عليهم، وبيانِ بُطْلانِ أقوالِهِم.
فيأتي كلامُهُ أحياناً طويلاً مُسْتَرْسِلاً فيهِ، وأحياناً مُقْتَضَباً مختصراً، وتارةً هَيِّناً ليِّناً، وتارةً حارًّا قَوِيًّا، ويَذْكُرُ أحياناً بعضَ المعاني فلا يُتِمُّها اكتفاءً بما عَرَضَ لهُ منها ممَّا يُتِمُّ مقصودَهُ فيما هوَ بصدَدِهِ، وأحياناً يذْكُرُهُ مُفَصَّلاً مبسوطاً يستكملُ أجزاءَهُ ومبانِيَهُ.
فكانَ في دمجِ هذهِ النصوصِ وتنسيقِها صعوبةٌ، أمَّا جمعُها في موضعٍ واحدٍ في الأصلِ فظاهرُ التفاوُتِ، مُشَتِّتٌ للذِّهْنِ، مُشَوِّشٌ على الفكْرِ، وما مَثَلِي؛ إذْ أفعلُ ذلكَ إلاَّ كَمَنْ أرادَ أنْ يجمعَ قصيدةً منْ قصائدَ مُتَفَرِّقَةٍ في ديوانِ شاعرٍ فجاءَ كلُّ شطرٍ فيها منْ بحْرٍ.
فرَأَيْتُ أنْ أُدْرِجَ في الأصلِ ما كانَ ألْيَقَ بالمقصودِ من الكتابِ، وأسْتَخْرِجَ من النصوصِ الأخرى ما يمكنُ إدراجُهُ في الأصلِ، وما تبَقَّى جَعَلْتُهُ في أنسبِ موضعٍ لهُ في الحاشيَةِ.
وتظهرُ فائدةُ هذا الأسلوبِ جلِيًّا في بابِ القواعدِ؛ حيثُ تُذْكَرُ القاعدةُ في الأصلِ بأسلوبِ البيانِ والتعليمِ؛ لأنَّهُ الأليقُ بها، ويُذْكَرُ في الحاشيَةِ استخدامُ ابنِ القَيِّمِ رحمهُ اللَّهُ تعالى لهذهِ القاعدةِ في رَدِّهِ على المخالفينَ، وكيفَ ينطلقُ منها ويَبْنِي عليها من الكلامِ العظيمِ والفوائدِ الجليلةِ ما يَشْفِي بهِ النفْسَ، ويُفْحِمُ بهِ الخصْمَ، فيكونُ في هذا دُرْبَةٌ عَمَلِيَّةٌ لطالبِ العلمِ على كيفِيَّةِ الاستفادةِ من القواعِدِ.
الاعتبارُ الرابعُ: مراعاةُ الوحدةِ الموضُوعيَّةِ وجَوْدَةِ التأليفِ بينَ النصوصِ وحُسْنِ سَبْكِهَا واتِّسَاقِهَا؛ بحيثُ يكونُ المجموعُ من النُّقولِ المُنَسَّقَةِ كأنَّهُ مُؤَلَّفٌ مُسْتَقِلٌّ لابنِ القيِّمِ رحمهُ اللَّهُ تعالى لا يُشْعِرُ القارئَ بأنَّهُ يَقْرَأُ في كُتُبٍ مُتفرِّقَةٍ؛ فلا يتَشَتَّتُ ذهْنُهُ، ولا يتَشَعَّبُ فكرُهُ.
وهذا مطلبٌ مُهِمٌّ؛ إذْ تَنْبَنِي عليهِ ثمرةُ الكتابِ وما أُرِيدَ منْهُ، وجعلُ جميعِ النصوصِ في الأصلِ مُنْهِكٌ للكتابِ مُذْهِبٌ لتنَاسُقِهِ وتَتَابُعِ أفكارِهِ.
الاعتبارُ الخامِسُ: مراعاةُ تفاوتِ طَبَقاتِ القُرَّاءِ.
فحَرَصْتُ على أنْ يكونَ الكتابُ ملائماً لأكبرِ عددٍ ممكنٍ من القُرَّاءِ؛ فَيُلائِمُ عُلَمَاءَنا ومشايخَنَا، ويُلائِمُ طلبةَ العلمِ على اختلافِ درجاتِهِم، ويُلائِمُ الباحثينَ والمتخصِّصِينَ في هذا العلْمِ، وكذلكَ مُحِبِّي القراءةِ والمثقَّفِينَ، بحيثُ يجدُ كلٌّ منهم بُغْيَتَهُ منْ هذا الكتابِ ولا يفُوتُهُ شيءٌ ممَّا جَمَعْتُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
* ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=881674&posted=1#_ftnref1) أعني بالتكرارِ هنا: أنْ يكونَ لابنِ القيِّمِ -رحمهُ اللَّهُ تعالى- كلامٌ في أحدِ كُتُبِهِ عنْ مسألةٍ ما، ويكونُ لهُ نحوُ هذا الكلام في كتابٍ آخَرَ.
¥