في الجزائر اليوم شباب ناهض, مبارك يزكو كل يوم عدده ويزيد وهذا الشباب فئتان: فئة قرأت العربية, وتربت تربية إسلامية, فقادتها (وهم قادة الأمة) يسيرون بالأمة في طريق الإصلاح الإسلامي, وسموا أنفسهم جماعة "الإصلاح الديني" [1] ([1]: وهم اليوم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) وهذه الحركة الإصلاحية حديثة العهد, لا ترجع في تاريخ انتشارها إلا إلى بضع سنوات. وفئة أخرى قرأت بالفرنسية, وتربت تربية غير إسلامية, حتى إنها لا تعرف الإسلام ولا رجال الإسلام المشهورين إلا من طريق اللغة الفرنسية. وأنت تعلم ما كتب أئمة هذه اللغة (الفرنسية) من الهزؤ بالأديان, وبرجال الأديان فنشأت هذه الفئة من شباب الجزائر لا تعرف الإسلام ولا تحترمه, ولا تعرف التاريخ الإسلامي ولا تعتز به, بل ولا تعرف تاريخ الجزائر, ولا تاريخ أسلافها في الجزائر, فهي لا تنظر إلى آبائها وأجدادها في هذه البلاد الكريمة إلا كما ينظر إليهم الفرنسيون ورجال الاستعمار. وهؤلاء المستعمرون يعمدون إلى كل مكرمة من مكارم الجزائر المسلمة, فيمسخونها مسخا, ولا يزالون بها حتى يخرجونها نقيصة يحطون بها من كرامة الجزائر, وعاراً يعيبون به آباءنا الجزائريين. فالرئيس "حميدو" القائد البحري الجزائري المشهور- الذي أخضع دول أوروبا جميعا لبأس الجزائر وسلطانها حتى كان الأوربيون جميعا يؤدون للجزائر مغرما سنويا, وكانوا لا يدخلون هذا البحر المتوسط حتى يعطوا الجزية عن بدٍ- وهم صاغرون- هذا القائد البطل العربي الجزائري لا يعترف له المستعمرون بالشجاعة وشدة البأس, بل يقلبون ذلك فيصفونه بأنه قاطع طريق وبأنه هو وأصحابه الأبطال"قرصان" متوحشون. ويصفون "قرصان" الأوربيين الذين يعدون على الجزائر ظلماً وعدوانا, بأنهم أهل نجدة وبطولة ... وهكذا يمسخون كل فضيلة من فضائل الإسلام والعروبة في الجزائر.
وبهذه اللبان تغذى أبناء الجزائر الذين تخرجوا في المدارس الفرنسية, فهم لا يعرفون دينهم, ولا يعرفون لغتهم, ولا يعرفون تاريخهم الإسلامي, ولا تاريخ آبائهم المسلمين.
ومع ذلك, فإن هذا التعليم الغربي لم يستطع أن ينتزع من هؤلاء الشبان المسلمين كل ما يريد أن ينتزع منهم, وقد بقيت فيهم وطنية طبيعية كانت تذكو في نفوسهم, وتتأجج في صدورهم, وتطغى بهم من حين إلى حين. وكان احتكاكهم بالإفرنج وما يسومونهم به من سوء العذاب, يزيد هذه الوطنية التهاباً وطغيانا. فيلتجئون إلى كتب الفرنجة نفسها فيستخرجون منها بعض ما كان لآبائهم من مكرمة وفخار, وبعض ما كان للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من عزة وسلطان, وبعض ما في دين الله (الإسلام) من الفضيلة ومكارم الأخلاق. ثم يعتزون بذلك ويفتخرون به أشد الافتخار.
من أجل ذلك, فاني كثيرا ما أطمع في هؤلاء الشبان المسلمين أن يفيئوا إلى أمر الله, وأطمع فيهم أن يكونوا دعاة يدعون الناس إلى الإسلام, ويبشرون به بين الفرنسيين. وذلك يسير غير عسير, اذا كان حملة الدين ورجال الإسلام لا يبخلون على هؤلاء الشبان بأمر من أمور الدين, يبينون لهم الإسلام بياناً صادقاً حتى يعرفونه حق المعرفة, وحتى يمكنهم أن يبينوه للناس على وجهه.
عرفت كثيرا من هؤلاء الشبان المسلمين, فكانوا يفرحون بي, ويستغربون أن يروا بينهم رجلاً من رجال الدين وعالماً من علماء الإسلام غير جامد ولا جاهل, ويستغربون- بفرح شديد- أن يروا رجلاً من المسلمين لا يعرف لغة غير اللغة العربية, ثم هو فيها يعرف أكثر مما يعرفون هم في اللغة الفرنسية التي يظنونها لغة العالم كله. وكثيراً ما صارحني غير واحد منهم بأنه اليوم فقط عرف أن العلم واحد في جميع اللغات, وأن الفكر يستوي فيه سائر البشر.
وقد أتحدث إلى أكثرهم علماً وأدباً من أصحاب الشهادات العالية, فيستمع ويصغي إلي كما يصغي الولد الصغير الذي لا يعلم شيئاً. ولا سيما إذا تحدثت إليه في أمر من أمور الإسلام.
¥